ابولمى
13 - 10 - 2003, 04:59 AM
أنا الفقير... الموقع أدناه
خالد صالح السيف*
تجاوز المسافات كلها... بسرعة فائقة، لم يكن قد ألفها من نفسه قبلا، وبخاصة أن السنين قد امتصت نسغه، فأحالته هيكلا بالكاد تستره بقايا أسمال بالية! هي الأخرى تفضح إبان الرياح عن شبحيته، راح يباعد بين خطواته، في حالة من ركض ممض، يستنفد بقايا جهده يتسابق وظله الممتد سوادا على أرض جرداء! استوعب العرق جسده المنهك، ازدرد بقايا ريق مر، ابتغى أن يرطب شفتيه... فتلمظ بطرف لسانه شفة منقعة بالملح! ارتوى عطشا! اصطلى بجمر شمس حارقة، كاد يتهاوى، تحامل على شيء من قواه، أبصرهم قبالته، رؤيته لهم منحته وقودا يغض به السير، اصطدم بكتلة بشرية تحاول أن تقف على رجليها! فيما هاماتها تعانق السحب بشموخ باذخ، شم رائحة لم يخبرها من قبل، أنكر أنفه، تَوَكَّدَ من وجود الأنف بملامسته إياه، لم يبرح دهن العود أنفه، انتشى، تذكر (أم عياله)، تفطن أنه في أرض معركة، أقحم نفسه - في الكتلة البشرية الفارهة - منحشرا، انثنى كما صفيحة معدنية ترتطم بمطرقة، كاد يتكسر ويتشظى، تذكر لأي شيء قد قطع كل هذه المسافات، فلم يكن بد إلا أن يعاود محاولته ثانية، أفلح، اندس بينهم! ابتلعته الكتلة فتورمت به نشازا، لم تشأ أن تتقيأه الكتلة البشرية بادئ الأمر، ظنا منها أنه من أولئك المتخفين ب***اب "التفاقر"! قاوم باندساسه حتى بات واحدا منهم! غير أنه لم يكن كذلك، ولن يكون! حاول أن يبحث عن ملامحه غير أنه فشل! مرة من بعد أخرى، شاء أن يتأكد أنه لم يزل هو هو، تنحنح! كاد يطمئن أنه لم يزل بعدُ حيا! غير أن قبضة يد هوت - دون قصد - على صدغه، من عنفها سعل، فتوالت الركلات بـ"جزم" فاخرة على مؤخرته، لم يعبأ به أحد، إذ لم يعتادوا أن يسقط - من بينهم - أحد، هذا يوم لا يسقط فيه الكبار، أردته الركلات جاثيا... قامته - إن تكون ثمة قامة يمتلكها - ظلت تلامس الأكعب! وبعينين زائغتين وهو لم يزل - بعد - منبطحا تحت أعقابهم! بهاتين العينين الزائغتين أبصر سيقانا مكتنزة لحما ومتوردة حمرة! حسر عن ساقه المتقوسة! ألقى نظرة عليها وخاطب نفسه بثقة وبمخارج حروف مفخمة: السيقان السمان والحمر للحريم ما هي لرجاجيل!... ضرب بيده طرف ساقه منتصراً... نهض متشبثا بركبة أحدهم! انتظمته "الكتلة"... اختفت ملامحه ثانية، ثمة أمر لم يفتقده، ذلك هو ذات اللقب الذي به قد جاء! ومن أجله تجشم وعورة هذا المجيء، التفت إليه أحدهم وسأله: "وش جابك بها الزحمة؟ قرب فمه من أذن السائل وهمس: "أبد والله ... بس مما حفظته عن جدي أن الموت مع الجماعة رحمة" ضحك صاحب السؤال فقال له وهو يضغط على كتفه: "إيه هين... بس قل لي وش السالفة"؟ تجاسر هذا الأب الستيني وقال: "والله يا خوي... شفت ها الزحمة قلت أكيد ممكن تكون وظيفة وأنا من زمن أبحث لابني عن أي عمل يضفه عنا ونرتزق من خلاله..." لا يا خال ـ هكذا قال السائل وهو يخفي ضحكة خبث ـ: ما جاء ببالك أن "هالزحمة" ربما كانت شيئا آخر غير الوظائف؟ أقسم بالله العظيم ما كان قصدي، قالها الأب وهو يرتجف، ضحك صاحبه وطمأنه: "لا يروح بالك بعيد" بادره الأب: "والله ما راح ولا يحزنون... وإذا تبي الحقيقة أيضا ظننت - هالزحمة- يمكن إن لم تكن وظائف قلت لعلها أن تكون توزيع صدقات، والحال ما يعلمها إلا الله". أخذه بيده وانتزعه من "الكتلة" ونأى به ثم قال له: "يا خال... هذا حراج ـ على مساهمة ـ بلغت فيه قيمة المتر لهذه الأرض 23** ريال... فالظاهر أنك أخطأت الطريق... (اللهم صلِّ على محمد) بهذا قابل هول المفاجأة... خنقته العبرة واندلقت دموعه تهمي على لحيته وراح يمسدها ويردد: "والله إني قايل لأم العيال... ليش تضطريني أطلع بالحر واليوم القائظ... وترغميني أن أتجه هالمرة شمال! لكن... خلها على ربك... هي واحدة من مئات المحاولات لعل وعسى"... تلاشى من المكان في حين ارتفع سعر السهم! أما الزمن فيلفهما جميعا! ليبقى شاهد إثبات على هول المفارقات... وفجيعة التواصل بين أطياف مجتمعنا البالغة حدا من الإقراف والإدهاش في آن! كم هذه الفجيعة تسفر عن طبقية مقيتة! نرزح تحت نيرها! بينما لم يزل بعد - فينا - من يبحث عن فقراء في الخارج وكأن ديارنا قد خلت! أتمنى على الموسرين في بلادي أن يلتفتوا فقط إلى الأقرب من جيرانهم! لعلهم يكتشفون أمراً لم يخطر لهم على بال! علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يتجاسر ألبتة على قتل مسلم واحد في حين أنه قتل الفقر المرة تلو الأخرى! على الرغم مما ناءت به خلافته من فتن مدلهمة! وابتغاء أن نعي إشكالية الفقر وفق دالها الشرعي ببعده الحضاري، اقرؤوا معي هذه النصوص:
قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)، تفطن لذات السياق القرآني من حيث الربط بين الفحشاء والفقر.
ثمة نصوص متضافرة حسان تعوذ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شأن الفقر، في حين قرنه بعظائم الأمور شرعا.
ونقل عن أبي حنيفة قوله: "لا تستشر من ليس في بيته دقيق! إذ كيف يكون للرجل رأي مصيب وفكره مشغول بمشكلة قوته". ويا ليت بعضا ممن يتعاطون الفقه اليوم يعون إشكالية الفقر ومسؤوليتها عن تمخض حالات من الفسق المعرفي... والفجور العلمي، قال أحد السلف: "إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك"! وها هنا يجب ألا يغيب شيوع التكفير في أدبيات بعض الخطابات الإسلامية!.
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ***ا هرما يسأل الناس فقال له: ما أنت يا ***؟ قال: "ذمي - وكان يهوديا - فرد عمر: ما أنصفناك!... أكلنا شيبتك ثم نضيعك في هرمك، وأخذه إلى بيته فأعطاه ما وجده عنده، ثم أوصى به لصاحب بيت المال:
... إلى هذا وأضرابه، فافرض لهم من بيت المال ما يكفيهم وعيالهم"، وبحسب هذه الحادثة أن تكون منهجا يقتفى أبعاد أثرها فقها وتنزيلا على الحال.
وجاء في جملة من الآثار: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع" و"إذا بات مؤمن جائعا فلا مال لأحد" وإن يكن ثمة نظر في أسانيدهما ففيهما الدال على فقه سلفنا لمشكلة الفقر... وجاء في بعض مدونات الحنابلة (إذا مات المسلم جوعا... فإن القادرين ممن حوله يعتبرون له قتلة... ويلزمون بدفع الدية عن...) وفي فقه ابن حزم ما هو أشد من ذلك إيغالا في معنى المقاتلة! في حال بلغ بمسلم الجوع مبلغه شدةً بينما يجد طعاما فيه فضل عن صاحبه، يرجع إليه في مظاناتها...
وبعد... حتى في شأن قراءتنا عن سلفنا اتضح أننا لم نفقه عنهم، كما أننا نحن من تحمل تبعة الإساءة إليهم وإلى فقههم وفهومهم!.
*أكاديمي سعودي في جامعة الإمام
خالد صالح السيف*
تجاوز المسافات كلها... بسرعة فائقة، لم يكن قد ألفها من نفسه قبلا، وبخاصة أن السنين قد امتصت نسغه، فأحالته هيكلا بالكاد تستره بقايا أسمال بالية! هي الأخرى تفضح إبان الرياح عن شبحيته، راح يباعد بين خطواته، في حالة من ركض ممض، يستنفد بقايا جهده يتسابق وظله الممتد سوادا على أرض جرداء! استوعب العرق جسده المنهك، ازدرد بقايا ريق مر، ابتغى أن يرطب شفتيه... فتلمظ بطرف لسانه شفة منقعة بالملح! ارتوى عطشا! اصطلى بجمر شمس حارقة، كاد يتهاوى، تحامل على شيء من قواه، أبصرهم قبالته، رؤيته لهم منحته وقودا يغض به السير، اصطدم بكتلة بشرية تحاول أن تقف على رجليها! فيما هاماتها تعانق السحب بشموخ باذخ، شم رائحة لم يخبرها من قبل، أنكر أنفه، تَوَكَّدَ من وجود الأنف بملامسته إياه، لم يبرح دهن العود أنفه، انتشى، تذكر (أم عياله)، تفطن أنه في أرض معركة، أقحم نفسه - في الكتلة البشرية الفارهة - منحشرا، انثنى كما صفيحة معدنية ترتطم بمطرقة، كاد يتكسر ويتشظى، تذكر لأي شيء قد قطع كل هذه المسافات، فلم يكن بد إلا أن يعاود محاولته ثانية، أفلح، اندس بينهم! ابتلعته الكتلة فتورمت به نشازا، لم تشأ أن تتقيأه الكتلة البشرية بادئ الأمر، ظنا منها أنه من أولئك المتخفين ب***اب "التفاقر"! قاوم باندساسه حتى بات واحدا منهم! غير أنه لم يكن كذلك، ولن يكون! حاول أن يبحث عن ملامحه غير أنه فشل! مرة من بعد أخرى، شاء أن يتأكد أنه لم يزل هو هو، تنحنح! كاد يطمئن أنه لم يزل بعدُ حيا! غير أن قبضة يد هوت - دون قصد - على صدغه، من عنفها سعل، فتوالت الركلات بـ"جزم" فاخرة على مؤخرته، لم يعبأ به أحد، إذ لم يعتادوا أن يسقط - من بينهم - أحد، هذا يوم لا يسقط فيه الكبار، أردته الركلات جاثيا... قامته - إن تكون ثمة قامة يمتلكها - ظلت تلامس الأكعب! وبعينين زائغتين وهو لم يزل - بعد - منبطحا تحت أعقابهم! بهاتين العينين الزائغتين أبصر سيقانا مكتنزة لحما ومتوردة حمرة! حسر عن ساقه المتقوسة! ألقى نظرة عليها وخاطب نفسه بثقة وبمخارج حروف مفخمة: السيقان السمان والحمر للحريم ما هي لرجاجيل!... ضرب بيده طرف ساقه منتصراً... نهض متشبثا بركبة أحدهم! انتظمته "الكتلة"... اختفت ملامحه ثانية، ثمة أمر لم يفتقده، ذلك هو ذات اللقب الذي به قد جاء! ومن أجله تجشم وعورة هذا المجيء، التفت إليه أحدهم وسأله: "وش جابك بها الزحمة؟ قرب فمه من أذن السائل وهمس: "أبد والله ... بس مما حفظته عن جدي أن الموت مع الجماعة رحمة" ضحك صاحب السؤال فقال له وهو يضغط على كتفه: "إيه هين... بس قل لي وش السالفة"؟ تجاسر هذا الأب الستيني وقال: "والله يا خوي... شفت ها الزحمة قلت أكيد ممكن تكون وظيفة وأنا من زمن أبحث لابني عن أي عمل يضفه عنا ونرتزق من خلاله..." لا يا خال ـ هكذا قال السائل وهو يخفي ضحكة خبث ـ: ما جاء ببالك أن "هالزحمة" ربما كانت شيئا آخر غير الوظائف؟ أقسم بالله العظيم ما كان قصدي، قالها الأب وهو يرتجف، ضحك صاحبه وطمأنه: "لا يروح بالك بعيد" بادره الأب: "والله ما راح ولا يحزنون... وإذا تبي الحقيقة أيضا ظننت - هالزحمة- يمكن إن لم تكن وظائف قلت لعلها أن تكون توزيع صدقات، والحال ما يعلمها إلا الله". أخذه بيده وانتزعه من "الكتلة" ونأى به ثم قال له: "يا خال... هذا حراج ـ على مساهمة ـ بلغت فيه قيمة المتر لهذه الأرض 23** ريال... فالظاهر أنك أخطأت الطريق... (اللهم صلِّ على محمد) بهذا قابل هول المفاجأة... خنقته العبرة واندلقت دموعه تهمي على لحيته وراح يمسدها ويردد: "والله إني قايل لأم العيال... ليش تضطريني أطلع بالحر واليوم القائظ... وترغميني أن أتجه هالمرة شمال! لكن... خلها على ربك... هي واحدة من مئات المحاولات لعل وعسى"... تلاشى من المكان في حين ارتفع سعر السهم! أما الزمن فيلفهما جميعا! ليبقى شاهد إثبات على هول المفارقات... وفجيعة التواصل بين أطياف مجتمعنا البالغة حدا من الإقراف والإدهاش في آن! كم هذه الفجيعة تسفر عن طبقية مقيتة! نرزح تحت نيرها! بينما لم يزل بعد - فينا - من يبحث عن فقراء في الخارج وكأن ديارنا قد خلت! أتمنى على الموسرين في بلادي أن يلتفتوا فقط إلى الأقرب من جيرانهم! لعلهم يكتشفون أمراً لم يخطر لهم على بال! علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يتجاسر ألبتة على قتل مسلم واحد في حين أنه قتل الفقر المرة تلو الأخرى! على الرغم مما ناءت به خلافته من فتن مدلهمة! وابتغاء أن نعي إشكالية الفقر وفق دالها الشرعي ببعده الحضاري، اقرؤوا معي هذه النصوص:
قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)، تفطن لذات السياق القرآني من حيث الربط بين الفحشاء والفقر.
ثمة نصوص متضافرة حسان تعوذ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شأن الفقر، في حين قرنه بعظائم الأمور شرعا.
ونقل عن أبي حنيفة قوله: "لا تستشر من ليس في بيته دقيق! إذ كيف يكون للرجل رأي مصيب وفكره مشغول بمشكلة قوته". ويا ليت بعضا ممن يتعاطون الفقه اليوم يعون إشكالية الفقر ومسؤوليتها عن تمخض حالات من الفسق المعرفي... والفجور العلمي، قال أحد السلف: "إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك"! وها هنا يجب ألا يغيب شيوع التكفير في أدبيات بعض الخطابات الإسلامية!.
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ***ا هرما يسأل الناس فقال له: ما أنت يا ***؟ قال: "ذمي - وكان يهوديا - فرد عمر: ما أنصفناك!... أكلنا شيبتك ثم نضيعك في هرمك، وأخذه إلى بيته فأعطاه ما وجده عنده، ثم أوصى به لصاحب بيت المال:
... إلى هذا وأضرابه، فافرض لهم من بيت المال ما يكفيهم وعيالهم"، وبحسب هذه الحادثة أن تكون منهجا يقتفى أبعاد أثرها فقها وتنزيلا على الحال.
وجاء في جملة من الآثار: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع" و"إذا بات مؤمن جائعا فلا مال لأحد" وإن يكن ثمة نظر في أسانيدهما ففيهما الدال على فقه سلفنا لمشكلة الفقر... وجاء في بعض مدونات الحنابلة (إذا مات المسلم جوعا... فإن القادرين ممن حوله يعتبرون له قتلة... ويلزمون بدفع الدية عن...) وفي فقه ابن حزم ما هو أشد من ذلك إيغالا في معنى المقاتلة! في حال بلغ بمسلم الجوع مبلغه شدةً بينما يجد طعاما فيه فضل عن صاحبه، يرجع إليه في مظاناتها...
وبعد... حتى في شأن قراءتنا عن سلفنا اتضح أننا لم نفقه عنهم، كما أننا نحن من تحمل تبعة الإساءة إليهم وإلى فقههم وفهومهم!.
*أكاديمي سعودي في جامعة الإمام