الجعيد
23 - 11 - 2003, 04:55 AM
تبدو صورة المحترف التشكيلي السعودي أشد انفتاحاً وتفتحاً وتحررا، ومساواة بين الإبداع الذكوري والأنثوي بما يتجاوز تعسف ما حاكه خيال الاستشراق الغربي والعربي حوله، بل أكثر من ذلك مقارنة بأشقائه من المحترفات التشكيلية العربية (الخليجية والمشرقية والمغربية)، إذ إن نسبة الفنانات اللواتي يمثلن علامات بارزة في المشهد الفني من رائدات ومخضرمات ومحدثات أكبر عدداً (ونوعاً) من نظائرهم الرجال لعل تجمع جاليتهن في مدينة جدة جعلها بمنزلة العاصمة التشكيلية المحلية.
يصحح هذا الواقع نظرية الناقدة اللبنانية هيلين الخال التي تصورت أن لبنان هو البلد الوحيد العربي الذي يتفوق فيه دور المرأة المبدعة في التشكيل على الرجل.
وأكثر من ذلك فإن الفرق بين حسابنا وتعداد هيلين أنها تسامحت بخلط بعض الهاويات في قائمة المحترفات، وبعض الفنانات غير اللبنانيات (أو المزدوجات الجنسية)، وبعض اللواتي يمارسن مهنا حرفية تطبيقية وليس فنوناً نخبوية.
اقتصرت أنا في الدراسة على المحترفات التشكيليات كفن نخبوي، خاصة اللواتي رسمن أو (شاركن) خصائص المحترف وخصوبته منذ الستينيات أي ما بين عهد صفية بن زقر وحداثة شادية عالم، ولو تعرضنا للهاويات اللواتي يعرضن على سبيل المثال في "بيت التشكيليين" في جدة تحت اسم "الواعدات" لحشرت مئات من السماء المؤنثة، والتي لا يعول عليها.
اعتمدت العلامات الأولى في تأسيس الحركة التشكيلية المحلية المعاصرة "تاريخياً" على أربعة أعمدة من الرواد " اثنان من الذكور هما عبد الحليم رضوي ومحمد السليم واثنتان من الإناث هما : صفية بن زقر ومنيرة موصلي.
تبدو في ذلك الوقت صفية بن زقر أشدهم حسما، فهي تصغر الرائدين بسنة واحدة فقط (من مواليد جدة 1940 ميلادية)، ولكنها كانت تحتكر وضوح صدمة الصورة في اللوحة - وإعادتها إلى الأذهان والذائقة الخمولة ناصعة الوصف والتنزيه في آن - مجابهة الحذر المفتعل الاستشراقي الذي سكن هواجس اللاوعي الجمعي خلال عقود من نوام "أهل الكهف" حيث وضعت خلالها "الصورة" موضع حساسية وشبهات من المتعصبين المعادين للفنون جملة وتفصيلا، تعصبا أعمى عن اللون والخط وأبعادهما الروحية، وهو ما يتناقض مع ثراء تاريخ الصورة في الحضارات السابقة واللاحقة للعروبة والإسلام، وخاصة التي أخصبت رسوم المخطوطات الإسلامية وسواها.
التمع في بحر هذه القطيعة والتصحر التشكيلي معرض صفية بن زقر في "دار التربية الحديثة" في مدينة جدة، كان ذلك عام 1968 ميلادية، معلنا المعرض النسائي الأول في المملكة، وكان ذلك بعد أربع سنوات فقط من معرض عبد الحليم رضوي الذي يعتبر المعرض التشكيلي الأول في المملكة، أقامه بعد عودته الدراسية من روما إلى جدة، وبعد عام واحد من معرض محمد السليم في الرياض. وأكثر من ذلك فإن أسلوب صفية بن زقر كان ناضجاً متميزاً، فلم يكن رضوي وجد خصائصه التعبيرية بعد، ولا توصل السليم إلى "آفاقيته"، الحروفية العرفانية.
كان الجميع غارقين في المشهد "الفلكلوري" الاستشراقي الملفق، في وقت كان فيه توثيث صفية لذاكرة المدينة ناصعا متينا.
صدر فن صفية عن مرارة غربتها وتقطع أوصال عوداتها إلى رحم البلد، خاصة أنها عاشت طفولتها في "حارة الشام" العريقة قبل أن تسافر مع أهلها إلى القاهرة وهي في السابعة من عمرها. درست وتربت هناك، وظل حنينها متأججاً في أخاديد الذاكرة الطفولية على الرغم من تقارب البيئتين ما بين مصر والمملكة. واشتد تعلق لوحتها لكل ما فقدته عندما عادت إلى جدة لتجابه التغيير التحديثي الذي نال من الساكن *****كون، نتحدث هي نفسها عن مخالب التحديث التي نالت من حرمة التقاليد الاجتماعية في بواطن البيوت والأجواء العائلية الحميمية، وهكذا وجد العامة في لوحاتها مرآة لذاكرة مدينتهم وحسن ماضيها الضائع وتراثها المندثر، تم هذا الانقلاب في عهد الأمير المتنور ال*** الفارسي، خلال فترة "الطفرة" في الثمانينات، يتحدث الرضوي عن "كورنيش النحت" الذي يمتد عشرات الكيلومترات على شاطئ جدة، وأنه تم خلال خمسة وعشرين عاماً ثلاثمائة وخمسين أبده عالمية وعربية، شارك الرضوي نفسه بتصميم خمس منها.
ابتدأت صفية بتصوير عمائر المدينة كما كانت تنعرج في بطن السماء، سامقة تلفها غيمات حلم، مع روشاناتها وزخارفها الخشبية وطوابقها، كانت تمثل أرضية لموضوعاتها الذاكراتية، ثم أصبحت موضوعاتي المدينة والعمارة والمراكب والمرفأ مستقلة حتى دخلت في خرائط أي موضوع تطرحه فيما بعد، وقد ساعدتها دراساتها في مصر على الاتكاء على عقيدة المعلم راغب عياد في حركة الأشكال إلى الأعلى والأسفل، تماما كما هي في الفن الإسلامي والمصري القديم، ثم اختفت تأثيرات "انطباعية" الأستاذ يوسف كامل، واختفت معه الظلال والمناظر الهاربة إلى الأفق، ولكنها حافظت على الرغم من ذلك على حرائق الشمس وقزحيات الألوان المحلية، خاصة التي تصطحب بها الأسواق وخزائن أترابها من "ستات" البلد وشاباتها.
انتهت إلى تطهير اللوحة من مشهدية الظل والنور (الاستشراقي) فاندرجت ـ اليفها في مصف "التنزيه"المجازي"، المتصل بنظام رسوم المخطوطات (المنمنمات) وعرائس مسرح الظل،انتقلت بذلك من مشرقية الموضوع الي الصيغة الفنية المشرقية، وقد يرجع ذلك إلى خصائص الثقافة البصرية المحلية التي بصمت اهتمامها بروح الصناعات والحرف وتصويرها لدواخل البيوت من الذاكرة والتوثيق والرواية.
حفظ متحفها الذي افتتحه العام الفائت تحت اسم "دارة صفية بن زقر" موضوعاتها الأثيرة الحياة الداخلية واليومية، والمناسبات والعادات الاجتماعية المنقرضة، ثم طقوس الأعراس وال**** والعاب البنات والصبيان ويوم الغسيل والحناء والمهن بما فيها صناعة المراكب ومشاهد الصيادين والسوق والمحمل، والباعة (البطيخ وسواه). أما "دارة صفية بن زقر، فهي قصر شرقي يشتمل على طابقين، يقع في قلب المدينة على شارع ولي العهد ، يعانق لوحاتها ورسومها ومحترفها ومكتب توثيقها، وبعض الأزياء المحلية والصناعات التراثية مثل السيوف والفضيات والحلى، أما جناح "مجلس تراثي" فيعيق بأريج ومناخات نشوة الماضي.
وعلى الرغم من هذا الحجاب الأطلالي التراثي أو البيئي في عمارة الألوان (كما هو منهج الفنان هنري ماتيس)،
تقتنص مع كل مشهد درجة لونية مسيطرة تمثل لون اللحظة الزمانية فيه، كما ثبتت تقاليد الهيكل أو التأليف الموسيقى البصري.
ستعطي هذه اللبنة التربوية اتضح ثمراتها مع عرفانية شادية عالم، وجدت هذه الشابة الموهوبة أن العالم الداخلي أعمق شجنا وأشواقا وجودية من الوجوه المتقلبة في فلكلور العالم الخارجي وضجيجه اللوني وسيكون لنا عودة على تجربتها.
إذ عدنا إلى شريكة صفية 0في معرضها المبكر المذكور) الفنانة منيرة موصلي فسنجد هذه الشراكة لا تخلو من التحالف والدعم والعصبية الأنثوية، فهي تصغرها بعشر سنوات، والتباعد الأسلوبي بينهما كبير. كانت منيرة في ذلك الوقت مازالت تلميذة في " كلية فنون القاهرة" تحاول جهدها الخروج من وصايا ووصاية أساتذة حامد ندا والسجيني والجزار على الرغم من امتصاص أصالتها لرحيقهم التربوي، ثم خرجت من عباءتهم الأسلوبية ثم من تاريخ الفن المحلي والعربي لتقيم بأسلوبها المعروف المعرض الأنثوي الأول في الرياض بعد عقد من الزمان من تاريخ مبادرتها الأولى مع صفية، وهكذا يعود إليها فضل الصدمتين، الأولى التي نالت من خمول الصورة وعطالتها الدهمائية، أما الثانية فقد كانت صدمة نخبوية جابهت نمطية المشهد الفولكلوري الضميري التراثي الذي سيطر على لوحات أترابها، مشيحة الطرف عن كل ما هو رقش وحروفية وسواها.
يصحح هذا الواقع نظرية الناقدة اللبنانية هيلين الخال التي تصورت أن لبنان هو البلد الوحيد العربي الذي يتفوق فيه دور المرأة المبدعة في التشكيل على الرجل.
وأكثر من ذلك فإن الفرق بين حسابنا وتعداد هيلين أنها تسامحت بخلط بعض الهاويات في قائمة المحترفات، وبعض الفنانات غير اللبنانيات (أو المزدوجات الجنسية)، وبعض اللواتي يمارسن مهنا حرفية تطبيقية وليس فنوناً نخبوية.
اقتصرت أنا في الدراسة على المحترفات التشكيليات كفن نخبوي، خاصة اللواتي رسمن أو (شاركن) خصائص المحترف وخصوبته منذ الستينيات أي ما بين عهد صفية بن زقر وحداثة شادية عالم، ولو تعرضنا للهاويات اللواتي يعرضن على سبيل المثال في "بيت التشكيليين" في جدة تحت اسم "الواعدات" لحشرت مئات من السماء المؤنثة، والتي لا يعول عليها.
اعتمدت العلامات الأولى في تأسيس الحركة التشكيلية المحلية المعاصرة "تاريخياً" على أربعة أعمدة من الرواد " اثنان من الذكور هما عبد الحليم رضوي ومحمد السليم واثنتان من الإناث هما : صفية بن زقر ومنيرة موصلي.
تبدو في ذلك الوقت صفية بن زقر أشدهم حسما، فهي تصغر الرائدين بسنة واحدة فقط (من مواليد جدة 1940 ميلادية)، ولكنها كانت تحتكر وضوح صدمة الصورة في اللوحة - وإعادتها إلى الأذهان والذائقة الخمولة ناصعة الوصف والتنزيه في آن - مجابهة الحذر المفتعل الاستشراقي الذي سكن هواجس اللاوعي الجمعي خلال عقود من نوام "أهل الكهف" حيث وضعت خلالها "الصورة" موضع حساسية وشبهات من المتعصبين المعادين للفنون جملة وتفصيلا، تعصبا أعمى عن اللون والخط وأبعادهما الروحية، وهو ما يتناقض مع ثراء تاريخ الصورة في الحضارات السابقة واللاحقة للعروبة والإسلام، وخاصة التي أخصبت رسوم المخطوطات الإسلامية وسواها.
التمع في بحر هذه القطيعة والتصحر التشكيلي معرض صفية بن زقر في "دار التربية الحديثة" في مدينة جدة، كان ذلك عام 1968 ميلادية، معلنا المعرض النسائي الأول في المملكة، وكان ذلك بعد أربع سنوات فقط من معرض عبد الحليم رضوي الذي يعتبر المعرض التشكيلي الأول في المملكة، أقامه بعد عودته الدراسية من روما إلى جدة، وبعد عام واحد من معرض محمد السليم في الرياض. وأكثر من ذلك فإن أسلوب صفية بن زقر كان ناضجاً متميزاً، فلم يكن رضوي وجد خصائصه التعبيرية بعد، ولا توصل السليم إلى "آفاقيته"، الحروفية العرفانية.
كان الجميع غارقين في المشهد "الفلكلوري" الاستشراقي الملفق، في وقت كان فيه توثيث صفية لذاكرة المدينة ناصعا متينا.
صدر فن صفية عن مرارة غربتها وتقطع أوصال عوداتها إلى رحم البلد، خاصة أنها عاشت طفولتها في "حارة الشام" العريقة قبل أن تسافر مع أهلها إلى القاهرة وهي في السابعة من عمرها. درست وتربت هناك، وظل حنينها متأججاً في أخاديد الذاكرة الطفولية على الرغم من تقارب البيئتين ما بين مصر والمملكة. واشتد تعلق لوحتها لكل ما فقدته عندما عادت إلى جدة لتجابه التغيير التحديثي الذي نال من الساكن *****كون، نتحدث هي نفسها عن مخالب التحديث التي نالت من حرمة التقاليد الاجتماعية في بواطن البيوت والأجواء العائلية الحميمية، وهكذا وجد العامة في لوحاتها مرآة لذاكرة مدينتهم وحسن ماضيها الضائع وتراثها المندثر، تم هذا الانقلاب في عهد الأمير المتنور ال*** الفارسي، خلال فترة "الطفرة" في الثمانينات، يتحدث الرضوي عن "كورنيش النحت" الذي يمتد عشرات الكيلومترات على شاطئ جدة، وأنه تم خلال خمسة وعشرين عاماً ثلاثمائة وخمسين أبده عالمية وعربية، شارك الرضوي نفسه بتصميم خمس منها.
ابتدأت صفية بتصوير عمائر المدينة كما كانت تنعرج في بطن السماء، سامقة تلفها غيمات حلم، مع روشاناتها وزخارفها الخشبية وطوابقها، كانت تمثل أرضية لموضوعاتها الذاكراتية، ثم أصبحت موضوعاتي المدينة والعمارة والمراكب والمرفأ مستقلة حتى دخلت في خرائط أي موضوع تطرحه فيما بعد، وقد ساعدتها دراساتها في مصر على الاتكاء على عقيدة المعلم راغب عياد في حركة الأشكال إلى الأعلى والأسفل، تماما كما هي في الفن الإسلامي والمصري القديم، ثم اختفت تأثيرات "انطباعية" الأستاذ يوسف كامل، واختفت معه الظلال والمناظر الهاربة إلى الأفق، ولكنها حافظت على الرغم من ذلك على حرائق الشمس وقزحيات الألوان المحلية، خاصة التي تصطحب بها الأسواق وخزائن أترابها من "ستات" البلد وشاباتها.
انتهت إلى تطهير اللوحة من مشهدية الظل والنور (الاستشراقي) فاندرجت ـ اليفها في مصف "التنزيه"المجازي"، المتصل بنظام رسوم المخطوطات (المنمنمات) وعرائس مسرح الظل،انتقلت بذلك من مشرقية الموضوع الي الصيغة الفنية المشرقية، وقد يرجع ذلك إلى خصائص الثقافة البصرية المحلية التي بصمت اهتمامها بروح الصناعات والحرف وتصويرها لدواخل البيوت من الذاكرة والتوثيق والرواية.
حفظ متحفها الذي افتتحه العام الفائت تحت اسم "دارة صفية بن زقر" موضوعاتها الأثيرة الحياة الداخلية واليومية، والمناسبات والعادات الاجتماعية المنقرضة، ثم طقوس الأعراس وال**** والعاب البنات والصبيان ويوم الغسيل والحناء والمهن بما فيها صناعة المراكب ومشاهد الصيادين والسوق والمحمل، والباعة (البطيخ وسواه). أما "دارة صفية بن زقر، فهي قصر شرقي يشتمل على طابقين، يقع في قلب المدينة على شارع ولي العهد ، يعانق لوحاتها ورسومها ومحترفها ومكتب توثيقها، وبعض الأزياء المحلية والصناعات التراثية مثل السيوف والفضيات والحلى، أما جناح "مجلس تراثي" فيعيق بأريج ومناخات نشوة الماضي.
وعلى الرغم من هذا الحجاب الأطلالي التراثي أو البيئي في عمارة الألوان (كما هو منهج الفنان هنري ماتيس)،
تقتنص مع كل مشهد درجة لونية مسيطرة تمثل لون اللحظة الزمانية فيه، كما ثبتت تقاليد الهيكل أو التأليف الموسيقى البصري.
ستعطي هذه اللبنة التربوية اتضح ثمراتها مع عرفانية شادية عالم، وجدت هذه الشابة الموهوبة أن العالم الداخلي أعمق شجنا وأشواقا وجودية من الوجوه المتقلبة في فلكلور العالم الخارجي وضجيجه اللوني وسيكون لنا عودة على تجربتها.
إذ عدنا إلى شريكة صفية 0في معرضها المبكر المذكور) الفنانة منيرة موصلي فسنجد هذه الشراكة لا تخلو من التحالف والدعم والعصبية الأنثوية، فهي تصغرها بعشر سنوات، والتباعد الأسلوبي بينهما كبير. كانت منيرة في ذلك الوقت مازالت تلميذة في " كلية فنون القاهرة" تحاول جهدها الخروج من وصايا ووصاية أساتذة حامد ندا والسجيني والجزار على الرغم من امتصاص أصالتها لرحيقهم التربوي، ثم خرجت من عباءتهم الأسلوبية ثم من تاريخ الفن المحلي والعربي لتقيم بأسلوبها المعروف المعرض الأنثوي الأول في الرياض بعد عقد من الزمان من تاريخ مبادرتها الأولى مع صفية، وهكذا يعود إليها فضل الصدمتين، الأولى التي نالت من خمول الصورة وعطالتها الدهمائية، أما الثانية فقد كانت صدمة نخبوية جابهت نمطية المشهد الفولكلوري الضميري التراثي الذي سيطر على لوحات أترابها، مشيحة الطرف عن كل ما هو رقش وحروفية وسواها.