بلابل السلام
18 - 1 - 2008, 09:44 PM
الفصل الثاني: صور المحبة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
المبحث الأول: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل
ذكرنا في الفصل الأول أن بعض الذين خاضوا في المحبة الإلهية أنكروا أن يحب العبد الله عز وجل لذاته بل هو إنما يحب إحسانه وإنعامه . ووقفنا قليلا مع رد ابن قيم الجوزية على هؤلاء المنكرين ولا أدل على ردنا عليهم من هذا المبحث الذي يقرر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل .
بيد أن الحديث عن هذا الجانب يستلزم منا الحديث أولا عن محبة الله تعالى : أهميتها , دلالتها, ثمارها ,وغير ذلك من الأمور التي تحدث عنها علماؤنا بإسهاب كابن قيم الجوزية والإمام الغزالي – رحمهما الله- (1)
1-محبة الله تعالى أصل المحاب كلها
إن محبة الله تعالى من أعظم واجبات الدين واكبر أصوله واجل قواعده (2) بل هي "الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها ... ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها "(3).
ومحبة الله تعالى قسمان فرض وندب فمحبة الندب هي أن يواظب على النوافل ويتجنب الوقوع في الشبهات والمتصف بذلك نادر (4)
.................................................. .....................
(1) انظر " إغاثة اللهفان " 119/2وما بعدها – و"روضة المحبين" و"مدارج السالكين "لابن قيم –وانظر " إحياء علوم الدين " 311/4.
(2) كما قال ابن قيم الجوزية في "إغاثة اللهفان " .
(3) "إحياء علوم الدين" 3111/4
(4) " فتح الباري " لابن حجر العسقلاني 61/1
وكما أن الله عز وجل ليس كمثله شئ فكذلك محبته ينبغي أن تكون منزهة عن الشرك ,فلا يحب المرء أحدا كما يحب الله تعالى, لان ذلك يعتبر من الشرك الذي لايغفر لصاحبه ولا يقبل معه عمل (1) قال سبحانه ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين امنوا اشد حبا لله ) .
ولا ننفي بقولنا هذا محبة الإنسان لغيره ولكن القصد أن تكون محبة الله عز وجل هي الأصل وان لايخلو القلب منها , حتى إذا أحب المرء شخصا آخر أو شيئا ما كان معينا له على محبة الله لا مبعدا له عنها .ولهذا قال ابن قيم الجوزية " لاعيب على الرجل في محبته لأهله ...إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو انفع له من محبته لله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله فان كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فخي مذمومة وان أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة " (2)
1-دلالة "لا اله إلا الله "
تدل شهادة "لااله إلا الله " على غاية المحبة وكمالها ,فأنت حينما تشهد أن "لا اله إلا الله " فانك تقر بأنه لامعبود إلا الله ,ولا محبوب إلا الله ,وهذا يقتضي منك خشية الله في العبادة وتقواه في العمل والوقوف عند حدوده وتجنب معصيته , فمن قال لا اله إلا الله ثم فعل ما يكرهه الله فهو غير صادق في إيمانه وفي حبه لله تعالى لان العبادة الحقيقية لا بد أن يلازمها عبادة تقية لاتدنسها شوائب الشرك , فيها الإخلاص لله ,والتوكل عليه وعدم الاستعانة إلا به ,والتيقن بأنه سبحانه هو الخالق ووحده القادر على الإحياء والإماتة, ثم خشيته في السر والعلن وفي العمل والعبادة .فمتى تحققت هذه المعاني السامية تحقق معنى لا اله إلا الله ومتى تحقق هذا اللواء العظيم تحققت محبة العبد لله تعالى . (3)
.................................................. ..............
(1) إغاثة اللهفان 135/2
(2) المرجع السابق 129/2
(3) " فضائل وأسرار لا اله إلا الله " لمحمد الصائم ص.66الى75 بتصرف
2- علاقة المعرفة بحب الله تعالى
إن المحب لله يستشعر حلاوة إيمانية يغبطه عليها غيره , قال الرسول صلى الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وان يحب المرء لايحبه إلا لله وان يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار " (1) ولهذا قال بعض الواجدين " انه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب " (2) .
غير أن الإحساس بهذه الحلاوة لايعم كل الناس, بل يختلف من إنسان لآخر تبعا لاختلافهم في معرفة الله تعالى, إذ بقدر معرفة الإنسان بربه عزوجل ,بقدر ما يزداد إيمانه وخشيته إياه ومحبته له .يقول النيسابوري – رحمه الله – "كلما كان الاطلاع على دقائق حكمة الله وقدرته وصنعته أكثر كان حبه له أتم .وبحسب الترقي في درجات العرفان تزداد المحبة إلى أن يستولي سلطان الحب على قلب المؤمن فيشغله عن الالتفات لغيره " (3)
وقال الإمام الغزالي – رحمه الله – مؤكدا العلاقة الوطيدة بين المحبة والمعرفة " المحبة ثمرة المعرفة تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها " (4).
.................................................. ..........
1- "صحيح مسلم "66/1 كتاب –الإيمان-.
2- " إغاثة اللهفان " 194/2
3- " تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان "101/2
4- " إحياء علوم الدين " 318/4
3- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عزوجل
لسنا هنا بصدد تأكيد محبة الرسول لله عزوجل ,فهذا أمر جلي وواضح ,لكن هدفنا هو الاسترشاد بهديه صلى الله عليه وسلم من خلال الصور التي تفيض بالمحبة في سيرته العطرة.فلنتأملها لعلها تحفزنا إلى حب الله قلبا وقالبا .
أ- المحبة والعبادة
لقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من كل أعمال الحياة عبادة, فكان في كلامه وصمته ,في حركته وسكونه ,في نومه ويقظته, بل في أنفاسه صلى الله عليه وسلم يعبد الله عزوجل لايفترلسانه عن ذكره واستغفاره ,حتى قال عليه الصلاة والسلام "والله إني لاستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة".(1)
وتحدثنا أمنا عائشة – رضي الله عنها - عن عبادته فتقول "كان يقوم حتى تفطر قدماه "(2)وفي رواية أخرى "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه فيقال له فيقول :أفلا أكون عبدا شكورا "(3)
وعن انس – رضي اله عنه – قال " كان رسول الله يفطر من الشهر حتى نظن أن لايصوم منه ,ويصوم حتى نظن أن لايفطرمنه شيئا, وكان لاتشاء تراه من الليل مصليا إلا رايته, ولا نائما إلا رايته " (4).
فهذا إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ,قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, ورغم ذلك كانت عبادته على هذا المنوال, بل واشد من ذلك ,وهي إن دلت على شئ فإنما تدل على شدة خشيته لربه عزوجل وعظيم معرفته بقدرته سبحانه هذه المعرفة التي انبثق عنها حب تام للمولى عزوجل, مما يؤكد تلازم المحبة والمعرفة من جهة وتلازم المحبة والعبادة من جهة أخرى, وهذا ما جعل سلفنا الصالح يقرر بان العبادة مع الحب أولى وأفضل, فقال يحيى بن معاذ " مثقال خرذلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب " (5)
وقال الباجي " وان أفضل نعم الله سبحانه وتعالى على خلقه ما ألهمهم به من حبه فلو تقربت إلى الله بكل عمل لم يكن فيه محبة لم يقبل " (6) .
.................................................. ..................
1- " صحصح البخاري " 188/7 كتاب – الدعوات –
2- صحيح البخاري 343/1كتاب – التهجد –
3- المصدر السابق .
4- "صحيح البخاري " 608/2 كتاب- الصوم –
5- نقله ابن قيم الجوزية في " روضة المحبين " ص.404.
6- نقله لسان الدين بن الخطيب في "روضة التعريف بالحب الشريف "
ب- المحبة والغضب
تتجلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عزوجل في غضبه عندما تنتهك حرماته أو يتهجم احدهم على ذاته سبحانه .فعن سعيد بن جبير- رضي الله عنه - انه قال " أتى رهط من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه قال فجاء جبريل عليه السلام فسكنه فقال: خفض عليك يا محمد .وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه ( قل هو الله احد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا احد ) قال فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خلقه ؟كيف ذراعه ؟كيف عضده؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشد من غضبه الأول وساورهم. فاتاه جبريل عليه السلام فقال له مثل ما قال له أول مرة وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه يقول الله تعالى ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) (1)"(2)
فغضبه دليل على غيرته لله وتعبير عن محبته له سبحانه وتعالى " والدين كله في هذه الغيرة بل هي الدين .وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه ولا أمر بمعروف ولانهى عن منكر إلا بهذه الغيرة. ومتى خلت من القلب خلا من الدين " (3)
.................................................. .....
1- سورة الزمر الاية67.
2- سيرة ابن هشام 180-279/4.
3- " روضة المحبين " ص.294.
ب- المحبة والصبر
وتبرز هذه المحبة أيضا في صبره صلى الله عليه وسلم وتحمله للأذى في سبيل الله عزوجل ما دام هذه الأذى غير نابع من غضب المحبوب سبحانه .وهنا تطالعنا صور الأذى التي رسمتها الأيادي الآثمة والقلوب الحاقدة لكفار قريش وسفهائها, لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان صابرا متيقنا بنصر الله له .
فها هو صلى الله عليه وسلم يوم الطائف قد أوى إلى حائط يتقي به الحجارة التي قذفه بها بعض السفهاء لم يفتأ يقول " إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي "(1) .فالرسول صلى الله عليه وسلم لايخشى العذاب ولا الألم إلا إذا كان تعبيرا عن تخلي الله عنه, أما إذا لم يكن غاضبا ولا عاتبا فمرحبا بالألم ومرحبا بكل ما يكيد به السفهاء .لكن سرعان ما أدرك عليه الصلاة والسلام انه لاينبغي للمحب الصادق في حبه أن يشغله استعذاب التضحية عن رجاء العافية فيتبع ضراعته السالفة بضراعة أخرى فيقول " ولكن عافيتك هي أوسع لي ".فالحب في غمار التضحية شئ جميل, ولكنه في غمار العافية أوفى وأجمل .فالمصطفى صلى الله عليه وسلم كان موفور الاستعداد لان يلاقي كل آلام الحب, ولكنه أيضا شديد الشوق لمباهج الحب التي لا تتألق إلا في نطاق العافية (2) .
د- المحبة والإخلاص
لما كان الإخلاص هو الرنين الذي يكشف صدق الحب وزيفه, فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على التخلق به وتجنب الرياء الذي يفقدنا الصدق في علاقتنا بالله تعالى ,ويؤدي إلى تدنيس الحب وضياعه .فقال عليه الصلاة والسلام " إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى ,فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (3)
فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يكون حبنا لله حبا خالصا, وأعمالنا في سبيله خالصة لا يشوبها رياء ,لان الحب بدون إخلاص لايكون حبا على الإطلاق .
فهذه إذن صور نبوية مقتطفة توضح مدى محبة الرسول لله عزوجل من جهة ,وتعلمنا من جهة أخرى كيف يجب أن نحب الله عزوجل في عبادتنا له ,وفي غضبنا عند انتهاك حرماته ,وفي صبرنا وتحملنا للأذى حتى تبقى كلمة الله هي العليا ثم في إخلاص النية لله عزوجل .
.................................................. ...
1- السيرة الحلبية 53/2
2- إنسانيات محمد الفصل الثالث ص. .136بتصرف .
3- "صحيح البخاري "137/5كتاب – مناقب الأنصار -
المبحث الأول: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل
ذكرنا في الفصل الأول أن بعض الذين خاضوا في المحبة الإلهية أنكروا أن يحب العبد الله عز وجل لذاته بل هو إنما يحب إحسانه وإنعامه . ووقفنا قليلا مع رد ابن قيم الجوزية على هؤلاء المنكرين ولا أدل على ردنا عليهم من هذا المبحث الذي يقرر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل .
بيد أن الحديث عن هذا الجانب يستلزم منا الحديث أولا عن محبة الله تعالى : أهميتها , دلالتها, ثمارها ,وغير ذلك من الأمور التي تحدث عنها علماؤنا بإسهاب كابن قيم الجوزية والإمام الغزالي – رحمهما الله- (1)
1-محبة الله تعالى أصل المحاب كلها
إن محبة الله تعالى من أعظم واجبات الدين واكبر أصوله واجل قواعده (2) بل هي "الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها ... ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها "(3).
ومحبة الله تعالى قسمان فرض وندب فمحبة الندب هي أن يواظب على النوافل ويتجنب الوقوع في الشبهات والمتصف بذلك نادر (4)
.................................................. .....................
(1) انظر " إغاثة اللهفان " 119/2وما بعدها – و"روضة المحبين" و"مدارج السالكين "لابن قيم –وانظر " إحياء علوم الدين " 311/4.
(2) كما قال ابن قيم الجوزية في "إغاثة اللهفان " .
(3) "إحياء علوم الدين" 3111/4
(4) " فتح الباري " لابن حجر العسقلاني 61/1
وكما أن الله عز وجل ليس كمثله شئ فكذلك محبته ينبغي أن تكون منزهة عن الشرك ,فلا يحب المرء أحدا كما يحب الله تعالى, لان ذلك يعتبر من الشرك الذي لايغفر لصاحبه ولا يقبل معه عمل (1) قال سبحانه ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين امنوا اشد حبا لله ) .
ولا ننفي بقولنا هذا محبة الإنسان لغيره ولكن القصد أن تكون محبة الله عز وجل هي الأصل وان لايخلو القلب منها , حتى إذا أحب المرء شخصا آخر أو شيئا ما كان معينا له على محبة الله لا مبعدا له عنها .ولهذا قال ابن قيم الجوزية " لاعيب على الرجل في محبته لأهله ...إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو انفع له من محبته لله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله فان كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فخي مذمومة وان أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة " (2)
1-دلالة "لا اله إلا الله "
تدل شهادة "لااله إلا الله " على غاية المحبة وكمالها ,فأنت حينما تشهد أن "لا اله إلا الله " فانك تقر بأنه لامعبود إلا الله ,ولا محبوب إلا الله ,وهذا يقتضي منك خشية الله في العبادة وتقواه في العمل والوقوف عند حدوده وتجنب معصيته , فمن قال لا اله إلا الله ثم فعل ما يكرهه الله فهو غير صادق في إيمانه وفي حبه لله تعالى لان العبادة الحقيقية لا بد أن يلازمها عبادة تقية لاتدنسها شوائب الشرك , فيها الإخلاص لله ,والتوكل عليه وعدم الاستعانة إلا به ,والتيقن بأنه سبحانه هو الخالق ووحده القادر على الإحياء والإماتة, ثم خشيته في السر والعلن وفي العمل والعبادة .فمتى تحققت هذه المعاني السامية تحقق معنى لا اله إلا الله ومتى تحقق هذا اللواء العظيم تحققت محبة العبد لله تعالى . (3)
.................................................. ..............
(1) إغاثة اللهفان 135/2
(2) المرجع السابق 129/2
(3) " فضائل وأسرار لا اله إلا الله " لمحمد الصائم ص.66الى75 بتصرف
2- علاقة المعرفة بحب الله تعالى
إن المحب لله يستشعر حلاوة إيمانية يغبطه عليها غيره , قال الرسول صلى الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وان يحب المرء لايحبه إلا لله وان يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار " (1) ولهذا قال بعض الواجدين " انه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب " (2) .
غير أن الإحساس بهذه الحلاوة لايعم كل الناس, بل يختلف من إنسان لآخر تبعا لاختلافهم في معرفة الله تعالى, إذ بقدر معرفة الإنسان بربه عزوجل ,بقدر ما يزداد إيمانه وخشيته إياه ومحبته له .يقول النيسابوري – رحمه الله – "كلما كان الاطلاع على دقائق حكمة الله وقدرته وصنعته أكثر كان حبه له أتم .وبحسب الترقي في درجات العرفان تزداد المحبة إلى أن يستولي سلطان الحب على قلب المؤمن فيشغله عن الالتفات لغيره " (3)
وقال الإمام الغزالي – رحمه الله – مؤكدا العلاقة الوطيدة بين المحبة والمعرفة " المحبة ثمرة المعرفة تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها " (4).
.................................................. ..........
1- "صحيح مسلم "66/1 كتاب –الإيمان-.
2- " إغاثة اللهفان " 194/2
3- " تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان "101/2
4- " إحياء علوم الدين " 318/4
3- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عزوجل
لسنا هنا بصدد تأكيد محبة الرسول لله عزوجل ,فهذا أمر جلي وواضح ,لكن هدفنا هو الاسترشاد بهديه صلى الله عليه وسلم من خلال الصور التي تفيض بالمحبة في سيرته العطرة.فلنتأملها لعلها تحفزنا إلى حب الله قلبا وقالبا .
أ- المحبة والعبادة
لقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من كل أعمال الحياة عبادة, فكان في كلامه وصمته ,في حركته وسكونه ,في نومه ويقظته, بل في أنفاسه صلى الله عليه وسلم يعبد الله عزوجل لايفترلسانه عن ذكره واستغفاره ,حتى قال عليه الصلاة والسلام "والله إني لاستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة".(1)
وتحدثنا أمنا عائشة – رضي الله عنها - عن عبادته فتقول "كان يقوم حتى تفطر قدماه "(2)وفي رواية أخرى "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه فيقال له فيقول :أفلا أكون عبدا شكورا "(3)
وعن انس – رضي اله عنه – قال " كان رسول الله يفطر من الشهر حتى نظن أن لايصوم منه ,ويصوم حتى نظن أن لايفطرمنه شيئا, وكان لاتشاء تراه من الليل مصليا إلا رايته, ولا نائما إلا رايته " (4).
فهذا إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ,قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, ورغم ذلك كانت عبادته على هذا المنوال, بل واشد من ذلك ,وهي إن دلت على شئ فإنما تدل على شدة خشيته لربه عزوجل وعظيم معرفته بقدرته سبحانه هذه المعرفة التي انبثق عنها حب تام للمولى عزوجل, مما يؤكد تلازم المحبة والمعرفة من جهة وتلازم المحبة والعبادة من جهة أخرى, وهذا ما جعل سلفنا الصالح يقرر بان العبادة مع الحب أولى وأفضل, فقال يحيى بن معاذ " مثقال خرذلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب " (5)
وقال الباجي " وان أفضل نعم الله سبحانه وتعالى على خلقه ما ألهمهم به من حبه فلو تقربت إلى الله بكل عمل لم يكن فيه محبة لم يقبل " (6) .
.................................................. ..................
1- " صحصح البخاري " 188/7 كتاب – الدعوات –
2- صحيح البخاري 343/1كتاب – التهجد –
3- المصدر السابق .
4- "صحيح البخاري " 608/2 كتاب- الصوم –
5- نقله ابن قيم الجوزية في " روضة المحبين " ص.404.
6- نقله لسان الدين بن الخطيب في "روضة التعريف بالحب الشريف "
ب- المحبة والغضب
تتجلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عزوجل في غضبه عندما تنتهك حرماته أو يتهجم احدهم على ذاته سبحانه .فعن سعيد بن جبير- رضي الله عنه - انه قال " أتى رهط من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه قال فجاء جبريل عليه السلام فسكنه فقال: خفض عليك يا محمد .وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه ( قل هو الله احد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا احد ) قال فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خلقه ؟كيف ذراعه ؟كيف عضده؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشد من غضبه الأول وساورهم. فاتاه جبريل عليه السلام فقال له مثل ما قال له أول مرة وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه يقول الله تعالى ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) (1)"(2)
فغضبه دليل على غيرته لله وتعبير عن محبته له سبحانه وتعالى " والدين كله في هذه الغيرة بل هي الدين .وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه ولا أمر بمعروف ولانهى عن منكر إلا بهذه الغيرة. ومتى خلت من القلب خلا من الدين " (3)
.................................................. .....
1- سورة الزمر الاية67.
2- سيرة ابن هشام 180-279/4.
3- " روضة المحبين " ص.294.
ب- المحبة والصبر
وتبرز هذه المحبة أيضا في صبره صلى الله عليه وسلم وتحمله للأذى في سبيل الله عزوجل ما دام هذه الأذى غير نابع من غضب المحبوب سبحانه .وهنا تطالعنا صور الأذى التي رسمتها الأيادي الآثمة والقلوب الحاقدة لكفار قريش وسفهائها, لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان صابرا متيقنا بنصر الله له .
فها هو صلى الله عليه وسلم يوم الطائف قد أوى إلى حائط يتقي به الحجارة التي قذفه بها بعض السفهاء لم يفتأ يقول " إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي "(1) .فالرسول صلى الله عليه وسلم لايخشى العذاب ولا الألم إلا إذا كان تعبيرا عن تخلي الله عنه, أما إذا لم يكن غاضبا ولا عاتبا فمرحبا بالألم ومرحبا بكل ما يكيد به السفهاء .لكن سرعان ما أدرك عليه الصلاة والسلام انه لاينبغي للمحب الصادق في حبه أن يشغله استعذاب التضحية عن رجاء العافية فيتبع ضراعته السالفة بضراعة أخرى فيقول " ولكن عافيتك هي أوسع لي ".فالحب في غمار التضحية شئ جميل, ولكنه في غمار العافية أوفى وأجمل .فالمصطفى صلى الله عليه وسلم كان موفور الاستعداد لان يلاقي كل آلام الحب, ولكنه أيضا شديد الشوق لمباهج الحب التي لا تتألق إلا في نطاق العافية (2) .
د- المحبة والإخلاص
لما كان الإخلاص هو الرنين الذي يكشف صدق الحب وزيفه, فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على التخلق به وتجنب الرياء الذي يفقدنا الصدق في علاقتنا بالله تعالى ,ويؤدي إلى تدنيس الحب وضياعه .فقال عليه الصلاة والسلام " إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى ,فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (3)
فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يكون حبنا لله حبا خالصا, وأعمالنا في سبيله خالصة لا يشوبها رياء ,لان الحب بدون إخلاص لايكون حبا على الإطلاق .
فهذه إذن صور نبوية مقتطفة توضح مدى محبة الرسول لله عزوجل من جهة ,وتعلمنا من جهة أخرى كيف يجب أن نحب الله عزوجل في عبادتنا له ,وفي غضبنا عند انتهاك حرماته ,وفي صبرنا وتحملنا للأذى حتى تبقى كلمة الله هي العليا ثم في إخلاص النية لله عزوجل .
.................................................. ...
1- السيرة الحلبية 53/2
2- إنسانيات محمد الفصل الثالث ص. .136بتصرف .
3- "صحيح البخاري "137/5كتاب – مناقب الأنصار -