خديجة الطيبة
24 - 6 - 2008, 04:21 PM
التعددية في الإسلام: وقفات مع بعض آيات القرآن
* مقدمة:
تهدف هذه الورقة إلى تقديم معالم الرؤية الإسلامية بخصوص موضوع التعددية كمبدأ عام وأساسي للحياة الإنسانية، من خلال رسم بعض صور تجلياتها التي تدلل وتؤكد على أنها ضرورية للاجتماع البشري وللتعايش السلمي. ونعتمد في ذلك أساسا على النص القرآني في عرض وتحليل هذه الفكرة. فالتركيز هنا ينصرف في المقام الأول إلى التعدد الديني والثقافي باعتبار أن غيابهما أو غياب أحدهما يعد سببا من أهم الأسباب التي تؤدي إلى تنامي التطرف الديني والصراع الحضاري. وبالتعبير السوسيولوجي، تطمح هذه الورقة إلى تسليط الضوء على طبيعة التفاعل الحضاري والثقافي الذي ينبغي أن يسود بين الشعوب والمجتمعات من وجهة نظر قرآنية على الخصوص.
هناك إجماع في أدبيات العلوم الإنسانية المعاصرة -وفي غيرها من العلوم - على أن الاختلاف يعد من أبرز سمات الوجود الإنساني ومن أوكد ضرورات الاجتماع البشري، بل والطبيعي أيضا، فالاختلاف سنة من السنن الكونية: هذا الكون الرحب الفسيح بهذا الاختلاف يفضي إلى التنوع والتناغم والتناسق، ويُذْهِبُ الرتابةَ والفتور. وهذا من شأنه أن يجعل للحياة طعما ومذاقا خاصا، فالاختلاف والتنوع يثريان الحياة، ويكسبان المرء خبرة حيث حل وحيثما ارتحل، فلو أن الناس جميعا خلقوا وجبلوا على صورة واحدة، والأماكن كلها كانت على صورة واحدة من حيث طبيعة المكان والمناخ وغير ذلك، ما احتاج الإنسان أن ينتقل من مكانه الذي ولد فيه، ولسئم العيش من أول سنوات إدراكه لمعنى الحياة لأنه لا يجد جديدا. ويرى البعض أن أهمية الاختلاف لا تتأتى فقط من كون التنوع هو أصل الاجتماع البشري، بل لأنه أيضا مما تدعو إليه الفطرة وتقتضي به الطبيعة. وما الاختلاف في واقع الأمر إلا ظاهرة من ظواهر الوجود أودعت في الكائنات عموما وفي الإنسان خصوصا. فمن وجهة نظر الإسلام، لولا سنة الاختلاف التي هي سبب من أسباب الخلق، لاستحالت الحياة. وفي غياب الاختلاف لا يمكن أن يكون الإنسان، من المنظور الإسلامي، ذلك المخلوق الذي سوّاه الإله ونفخ فيه من روحه، ثم منحه العقل، وعلّمه البيان، وفضله على كثير من المخلوقات، واستخلفه في الأرض، وسخّر له ما في الكون جميعا، ثم هيّأ له مبادئ الروابط السامية التي تمكنه من الترفع عن كل تسفل، وتدعوه إلى التعاون مع نظيره في الخلق، في عمارة الكون وتدبير المصالح وتبادل المنافع. ويمتن الله على عباده من خلال آيات الكتاب المقدس للمسلمين )القرآن(، أن جعل من آياته تعاقب الليل والنهار حتى لا يشعر الإنسان بالملل، ويتسنى له أن يجعل لكل وقت ما يناسبه من الأعمال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (1).
انطلاقا من النص القرآني الذي يحفل بالآيات التي وردت فيها لفظة (الاختلاف) (2) يمكن القول بأن التصور الإسلامي للوجود يقوم على فكرتين أساسيتين (3):
- الفكرة الأولى: هي وحدانية الخالق،
- والفكرة الثانية: هي تعددية الخلق واختلاف المخلوق.
وعلى هذين الأساسين بنى الإسلام تصوره وعقيدته وفكرته عن هذا الوجود. فبالنسبة للمسلمين فإن الله وحده هو الواحد، وكل ما بعده متعدد: هو واحد في ذاته وواحد في صفاته وواحد في أفعاله، هو الخالق وحده والمحيي والمميت وحده وهو المعبود وحده، لا يستحق العبادة غيره ولا الاستعانة بمن سواه، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (4)، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (5). وعلى هذا كان التوحيد في الإسلام بمثابة جوهر هذا الدين وأساسه المتين.
فالتوحيد إذن هو روح الوجود الإسلامي ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (6)، وهذه كانت دعوة الأنبياء والمرسلين جميعاً، كل الرسل دعوا قومهم كما جاء في معرض آيات القرآن إلى التوحيد: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (7)، والطاغوت كل ما يعبد ويعظم ويطاع طاعة مطلقة من دون الله سواء كان من البشر أم من غير البشر. فالهدف من بعثة الأنبياء هو تحرير البشرية من عبادة غير الله، من عبادة الأشياء أو عبادة الذوات أو عبادة الأشخاص أو عبادة الأفلاك أو عبادة الحيوان أو عبادة الإنسان أو عبادة الهوى والذات.
تحرير البشر من العبودية لغير الله كان رسالة الأنبياء جميعاً التي تركزت وتجسدت في الدين الخاتم الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم ليحرر الناس من عبادة الطواغيت حتى يعيشوا أحراراً متساوين فلا يمكن للناس أن ينعموا بظلال الحرية وبنسيمها إذا كان بعضهم يعبد بعضاً أو يذل بعضهم لبعض.
هذه هي الفكرة الأولى التي نستخلصها من قراءتنا لبعض آيات القران. أما الفكرة الثانية فهي التعددية في الخلق، التعددية العرقية والتعددية اللسانية والتعددية الدينية، والتعددية الثقافية، كل هذه التعدديات شرعها الإسلام. المسلم ليس وحده في هذا الوجود، هناك آخرون يشاركونه في الحياة. إذن فثمة تعدد في الخلق.
* التعددية العرقية:
نجد أن هناك تعدداً في العروق والأجناس والعناصر، يقول القرآن ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (8). خلقناكم من ذكر وأنثى، أي كلكم أولاد رجل وامرأة: آدم وحواء. ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾: هذا الشعب العربي وهذا الشعب الهندي وهذا الشعب التركي وهذا الشعب الايطالي وهذا الشعب الكندي،.. شعوب وقبائل لتعارفوا، أي لتتفاهموا، لتتعاونوا، لا لتتناكروا ولا لتتصادموا ولا لتتعادوا. هكذا خلق الله البشر عروقاً وأجناساً، كلها تنتهي لأب واحد وأم واحدة وتنتمي لرب واحد هو الذي خلقها وسواها -من أسماء الله وصفاته المذكورة في القرآن: اسم الواسع- ثم هذا ما أقره النبي محمد صلى الله عليه وسلم للألوف المؤلفة من المسلمين في حجة الوداع حينما قال: "أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد.. كلكم لآدم وآدم من تراب" (9).
إذن فالأجناس كلها متساوية من وجهة نظر الإسلام، ويجب أن يسعى بعضها بعضاً لإقامة المساواة، فلا يحاول جنس أن يطغى على جنس فضلاً عن أن يبيد جنساً آخر.
* التعددية اللغوية:
التعددية العرقية حقيقة من الحقائق الكبرى في الإسلام، والتعددية اللغوية أو اللسانية هي أيضا، فالله خلق الناس باختلاف ألسنتهم ولغاتهم. القرآن يقول ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (10)، هذا يتكلم بالعربية وهذا يتكلم بالفارسية وهذا يتكلم بالهندية، وهذا يتكلم بالعبرية … لا بل قد تختلف اللغة الواحدة فتنقسم بدورها إلى عدة لهجات.
يتكلم الناس بلغاتهم، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (11)، حتى الرسالة العالمية رسالة الإسلام ورسالة القرآن ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (12)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ (13)، جاءت بلسان عربي مبين، فكيف يقع تبليغها في ما بعد إلى العالم؟ بالترجمة: أي تترجم إلى لغات يستعملها الآخرون حتى يعرفوها، فحوار الحضارات والثقافات والتفاعل في ما بينها يمكن الإنسان من تعلم لغة غيره وتعليم غيره لغته، ومن ثم لابد أن نعترف بأن هناك لغات شتى وألسنة مختلفة يتحدث الناس بها ويتخاطبون ويتفاعلون من خلالها.
* التعددية الثقافية:
بما أن التنوع ظاهرة كونية، فهو يشمل مختلف جوانب الحياة: الإنساني والحيواني والطبيعي الجغرافي. ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (14).
يتبين من خلال هذه الآية القرآنية أن الإنسان كلما كان واعيا بحقيقة الاختلاف، باحثا في الكون مكتشفا لأسراره، كلما اتسعت دائرة علمه ومعارفه. والعلماء هم الأكثر تأهيلا، لا لخشية الله فحسب، بل وأيضا لمعرفة واكتشاف حقائق الكون وتنوعه، فهم يعرفون بأبحاثهم ومعاينتهم وتجاربهم واكتشافاتهم وخشيتهم لخالقهم أيضا اختلاف الألوان. والتنوع يعبر عنه القرآن باختلاف الألوان، أي اختلاف الأنواع والأصناف.
ثم من شأن هذا الاختلاف الطبيعي الجغرافي والحيواني والإنساني أن يثري الحياة الإنسانية على كل أصعدة مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. بهذا، ومع إقراره بالتعددية العرقية واللسانية واللغوية، يعترف المنظور الإسلامي كذلك بالتعددية الثقافية. ما دام الناس يتعددون في أعراقهم ولغاتهم وألسنتهم ويتعاملون ويتفاعلون بأساليب مختلفة مع كائنات متعددة الألوان فلابد أن يتعددوا في ثقافاتهم، والمراد بالناحية الثقافية ما يتصل بالحياة ومفاهيمها ونظمها وتقاليدها ومعارفها وتقنياتها وعادات الناس فيها. فالناس يختلفون في أمور شتى: في ملابسهم ومآكلهم ومشاربهم ومساكنهم...
لكل جماعة إنسانية طريقة- وربما طرائق- اتخذتها ومنهج اتبعته في تفاعلها مع محيطها وبيئتها، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (15)، ولذلك قدر الإسلام هذه الاختلافات في ثقافات الناس، ووسع هؤلاء جميعاً. فالناس أحرار في ثقافاتهم وتقاليدهم وأعرافهم وعاداتهم.
ويرى البعض أن الحضارة الإسلامية مثلا، شاركت فيها أنواع عديدة من العناصر والأجناس والأديان المختلفة، وساهمت في إثرائها ثقافات متعددة، فكل بثقافته شارك في تشييدها وازدهارها وكل ترك له بصمة في ناحية من النواحي الحياتية فيها.
هذا التعدد في الإسهامات الثقافية من شأنه أن يغني حضارة ما من الحضارات ويعززها وينميها، وعلى النقيض من ذلك، الحضارة التي تقوم على لون واحد أو شكل واحد أو صورة واحدة فهذه تعد حضارة فقيرة.. الحضارة الغنية هي التي تأخذ وتستفيد من الجميع وتقتبس من الكل. هذا ما يعبر عنه بالتنوع أو التعدد الثقافي الثري.
* التعددية الدينية:
مع التعددية العرقية واللسانية اللغوية والثقافية عموما، نجد أن هناك في الإسلام تعددية دينية، هذه التعددية الدينية مرتبطة بالتعددية الثقافية -التعدد الثقافي ينجم عنه تعدد ديني- ما دام الناس يتعددون ثقافيا فلابد أن يتعددوا دينياً. خلق الله الناس مختلفين، خلق لكل منهم عقلاً يفكر به، ومنحه إرادة يرجّح بها، ومنحه ملكات وقوى ومواهب مختلفة على أساسها يختار الناس لأنفسهم ما يريدونه. لو شاء الله أن يجعل الناس كلهم مؤمنين به لفطرهم على التوحيد والإيمان كما فطر الملائكة، ولكن الله خلق من خلقه خلقاً مفطورين على عبادته ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (16)، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ (17)، هؤلاء هم الملائكة، وخلق من خلقه نوعاً ميزه بالإرادة وبالاختيار، هو الذي يقرر مصيره بنفسه ولنفسه ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ (18)، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ (19)، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (20)، ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ (21)، أعطاه المشيئة والإرادة والاختيار والقدرة ليقرر مصيره ويسلك طريقه، هذا النوع هو الإنسان.
لم يشأ الله أن يجبره على دين واحد ولا على الإيمان به، بل ترك له الحرية قي هذه القضية، وأعطاه الأدوات التي يفكر بها وبعث له الرسل وأنزل له الكتب لتعاونه وتساعده على اختيار الطريق الذي يريده أن يسلكه، ولكن ترك له الخيرة. هكذا خلق الله ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (22)، (لذلك) أي وللاختلاف خلقهم، لأنه خلقهم متغايرين في الفكر والإرادة فلابد أن يتغايروا في الدين الذي يختارونه، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (23)، لا يكره الناس على دين ما أو على عقيدة معينة. نوح عليه السلام، على سبيل الذكر لا الحصر، قال لقومه ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (24)، أنلزمكم بالهداية ؟ لا بل أنتم أحرار في هذا المجال.
* التسامح مع غير المسلم:
خلق الله الناس على أديان مختلفة ويجب أن يسع أهل الأديان بعضهم بعضاً. لا يجبر أناس على أن يتركوا دينهم ليعتنقوا ديناً آخر، لم يأت الإسلام بهذا، لأنه ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (25)، ولذلك يحث الإسلام المسلم أن يسع المخالفين، لا أن يقهرهم على أن يتبعوا دينا واحدا، سواء كان ذلك الدين دينه هو أو دين غيره. كما لا يسمح الإسلام لأحد أن يقهر معتنقيه على ترك دينهم أو أن يمنعهم من طاعة ربهم. هذه التعددية الدينية هي التي قررها الإسلام منذ العهد المكي وفي العهد المدني أيضا.
نجد أن هناك سورة في القرآن جمعت بين أمرين قد يظنهما بعض الناس متناقضين، الاعتزاز بالدين إلى أقصى حد والتسامح مع المخالف إلى أقصى حد، هذه السورة هي سورة الكافرون. السورة الوحيدة التي خاطب الله فيها غير المسلمين في حياتهم الدنيا بعنوان الكافرين، فمن عادة القرآن أن يخاطب غير المسلم دائماً بـ (يا أيها الناس، يا بني آدم، يا عبادي، يا أهل الكتاب...) لكن ورد في هذه السورة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ (26). ويعود سبب نزولها لقصة مساومة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانوا يساومون النبي ويفاوضونه على أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، وهذه المساومات أراد القرآن أن يقطعها بقرار حاسم واضح جلي، ولذلك قال ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (27)، هذا التكرار والتأكيد يتبعه في نهاية السورة هذا التسامح العجيب ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (28).
* مقدمة:
تهدف هذه الورقة إلى تقديم معالم الرؤية الإسلامية بخصوص موضوع التعددية كمبدأ عام وأساسي للحياة الإنسانية، من خلال رسم بعض صور تجلياتها التي تدلل وتؤكد على أنها ضرورية للاجتماع البشري وللتعايش السلمي. ونعتمد في ذلك أساسا على النص القرآني في عرض وتحليل هذه الفكرة. فالتركيز هنا ينصرف في المقام الأول إلى التعدد الديني والثقافي باعتبار أن غيابهما أو غياب أحدهما يعد سببا من أهم الأسباب التي تؤدي إلى تنامي التطرف الديني والصراع الحضاري. وبالتعبير السوسيولوجي، تطمح هذه الورقة إلى تسليط الضوء على طبيعة التفاعل الحضاري والثقافي الذي ينبغي أن يسود بين الشعوب والمجتمعات من وجهة نظر قرآنية على الخصوص.
هناك إجماع في أدبيات العلوم الإنسانية المعاصرة -وفي غيرها من العلوم - على أن الاختلاف يعد من أبرز سمات الوجود الإنساني ومن أوكد ضرورات الاجتماع البشري، بل والطبيعي أيضا، فالاختلاف سنة من السنن الكونية: هذا الكون الرحب الفسيح بهذا الاختلاف يفضي إلى التنوع والتناغم والتناسق، ويُذْهِبُ الرتابةَ والفتور. وهذا من شأنه أن يجعل للحياة طعما ومذاقا خاصا، فالاختلاف والتنوع يثريان الحياة، ويكسبان المرء خبرة حيث حل وحيثما ارتحل، فلو أن الناس جميعا خلقوا وجبلوا على صورة واحدة، والأماكن كلها كانت على صورة واحدة من حيث طبيعة المكان والمناخ وغير ذلك، ما احتاج الإنسان أن ينتقل من مكانه الذي ولد فيه، ولسئم العيش من أول سنوات إدراكه لمعنى الحياة لأنه لا يجد جديدا. ويرى البعض أن أهمية الاختلاف لا تتأتى فقط من كون التنوع هو أصل الاجتماع البشري، بل لأنه أيضا مما تدعو إليه الفطرة وتقتضي به الطبيعة. وما الاختلاف في واقع الأمر إلا ظاهرة من ظواهر الوجود أودعت في الكائنات عموما وفي الإنسان خصوصا. فمن وجهة نظر الإسلام، لولا سنة الاختلاف التي هي سبب من أسباب الخلق، لاستحالت الحياة. وفي غياب الاختلاف لا يمكن أن يكون الإنسان، من المنظور الإسلامي، ذلك المخلوق الذي سوّاه الإله ونفخ فيه من روحه، ثم منحه العقل، وعلّمه البيان، وفضله على كثير من المخلوقات، واستخلفه في الأرض، وسخّر له ما في الكون جميعا، ثم هيّأ له مبادئ الروابط السامية التي تمكنه من الترفع عن كل تسفل، وتدعوه إلى التعاون مع نظيره في الخلق، في عمارة الكون وتدبير المصالح وتبادل المنافع. ويمتن الله على عباده من خلال آيات الكتاب المقدس للمسلمين )القرآن(، أن جعل من آياته تعاقب الليل والنهار حتى لا يشعر الإنسان بالملل، ويتسنى له أن يجعل لكل وقت ما يناسبه من الأعمال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (1).
انطلاقا من النص القرآني الذي يحفل بالآيات التي وردت فيها لفظة (الاختلاف) (2) يمكن القول بأن التصور الإسلامي للوجود يقوم على فكرتين أساسيتين (3):
- الفكرة الأولى: هي وحدانية الخالق،
- والفكرة الثانية: هي تعددية الخلق واختلاف المخلوق.
وعلى هذين الأساسين بنى الإسلام تصوره وعقيدته وفكرته عن هذا الوجود. فبالنسبة للمسلمين فإن الله وحده هو الواحد، وكل ما بعده متعدد: هو واحد في ذاته وواحد في صفاته وواحد في أفعاله، هو الخالق وحده والمحيي والمميت وحده وهو المعبود وحده، لا يستحق العبادة غيره ولا الاستعانة بمن سواه، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (4)، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (5). وعلى هذا كان التوحيد في الإسلام بمثابة جوهر هذا الدين وأساسه المتين.
فالتوحيد إذن هو روح الوجود الإسلامي ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (6)، وهذه كانت دعوة الأنبياء والمرسلين جميعاً، كل الرسل دعوا قومهم كما جاء في معرض آيات القرآن إلى التوحيد: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (7)، والطاغوت كل ما يعبد ويعظم ويطاع طاعة مطلقة من دون الله سواء كان من البشر أم من غير البشر. فالهدف من بعثة الأنبياء هو تحرير البشرية من عبادة غير الله، من عبادة الأشياء أو عبادة الذوات أو عبادة الأشخاص أو عبادة الأفلاك أو عبادة الحيوان أو عبادة الإنسان أو عبادة الهوى والذات.
تحرير البشر من العبودية لغير الله كان رسالة الأنبياء جميعاً التي تركزت وتجسدت في الدين الخاتم الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم ليحرر الناس من عبادة الطواغيت حتى يعيشوا أحراراً متساوين فلا يمكن للناس أن ينعموا بظلال الحرية وبنسيمها إذا كان بعضهم يعبد بعضاً أو يذل بعضهم لبعض.
هذه هي الفكرة الأولى التي نستخلصها من قراءتنا لبعض آيات القران. أما الفكرة الثانية فهي التعددية في الخلق، التعددية العرقية والتعددية اللسانية والتعددية الدينية، والتعددية الثقافية، كل هذه التعدديات شرعها الإسلام. المسلم ليس وحده في هذا الوجود، هناك آخرون يشاركونه في الحياة. إذن فثمة تعدد في الخلق.
* التعددية العرقية:
نجد أن هناك تعدداً في العروق والأجناس والعناصر، يقول القرآن ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (8). خلقناكم من ذكر وأنثى، أي كلكم أولاد رجل وامرأة: آدم وحواء. ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾: هذا الشعب العربي وهذا الشعب الهندي وهذا الشعب التركي وهذا الشعب الايطالي وهذا الشعب الكندي،.. شعوب وقبائل لتعارفوا، أي لتتفاهموا، لتتعاونوا، لا لتتناكروا ولا لتتصادموا ولا لتتعادوا. هكذا خلق الله البشر عروقاً وأجناساً، كلها تنتهي لأب واحد وأم واحدة وتنتمي لرب واحد هو الذي خلقها وسواها -من أسماء الله وصفاته المذكورة في القرآن: اسم الواسع- ثم هذا ما أقره النبي محمد صلى الله عليه وسلم للألوف المؤلفة من المسلمين في حجة الوداع حينما قال: "أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد.. كلكم لآدم وآدم من تراب" (9).
إذن فالأجناس كلها متساوية من وجهة نظر الإسلام، ويجب أن يسعى بعضها بعضاً لإقامة المساواة، فلا يحاول جنس أن يطغى على جنس فضلاً عن أن يبيد جنساً آخر.
* التعددية اللغوية:
التعددية العرقية حقيقة من الحقائق الكبرى في الإسلام، والتعددية اللغوية أو اللسانية هي أيضا، فالله خلق الناس باختلاف ألسنتهم ولغاتهم. القرآن يقول ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (10)، هذا يتكلم بالعربية وهذا يتكلم بالفارسية وهذا يتكلم بالهندية، وهذا يتكلم بالعبرية … لا بل قد تختلف اللغة الواحدة فتنقسم بدورها إلى عدة لهجات.
يتكلم الناس بلغاتهم، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (11)، حتى الرسالة العالمية رسالة الإسلام ورسالة القرآن ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (12)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ (13)، جاءت بلسان عربي مبين، فكيف يقع تبليغها في ما بعد إلى العالم؟ بالترجمة: أي تترجم إلى لغات يستعملها الآخرون حتى يعرفوها، فحوار الحضارات والثقافات والتفاعل في ما بينها يمكن الإنسان من تعلم لغة غيره وتعليم غيره لغته، ومن ثم لابد أن نعترف بأن هناك لغات شتى وألسنة مختلفة يتحدث الناس بها ويتخاطبون ويتفاعلون من خلالها.
* التعددية الثقافية:
بما أن التنوع ظاهرة كونية، فهو يشمل مختلف جوانب الحياة: الإنساني والحيواني والطبيعي الجغرافي. ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (14).
يتبين من خلال هذه الآية القرآنية أن الإنسان كلما كان واعيا بحقيقة الاختلاف، باحثا في الكون مكتشفا لأسراره، كلما اتسعت دائرة علمه ومعارفه. والعلماء هم الأكثر تأهيلا، لا لخشية الله فحسب، بل وأيضا لمعرفة واكتشاف حقائق الكون وتنوعه، فهم يعرفون بأبحاثهم ومعاينتهم وتجاربهم واكتشافاتهم وخشيتهم لخالقهم أيضا اختلاف الألوان. والتنوع يعبر عنه القرآن باختلاف الألوان، أي اختلاف الأنواع والأصناف.
ثم من شأن هذا الاختلاف الطبيعي الجغرافي والحيواني والإنساني أن يثري الحياة الإنسانية على كل أصعدة مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. بهذا، ومع إقراره بالتعددية العرقية واللسانية واللغوية، يعترف المنظور الإسلامي كذلك بالتعددية الثقافية. ما دام الناس يتعددون في أعراقهم ولغاتهم وألسنتهم ويتعاملون ويتفاعلون بأساليب مختلفة مع كائنات متعددة الألوان فلابد أن يتعددوا في ثقافاتهم، والمراد بالناحية الثقافية ما يتصل بالحياة ومفاهيمها ونظمها وتقاليدها ومعارفها وتقنياتها وعادات الناس فيها. فالناس يختلفون في أمور شتى: في ملابسهم ومآكلهم ومشاربهم ومساكنهم...
لكل جماعة إنسانية طريقة- وربما طرائق- اتخذتها ومنهج اتبعته في تفاعلها مع محيطها وبيئتها، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (15)، ولذلك قدر الإسلام هذه الاختلافات في ثقافات الناس، ووسع هؤلاء جميعاً. فالناس أحرار في ثقافاتهم وتقاليدهم وأعرافهم وعاداتهم.
ويرى البعض أن الحضارة الإسلامية مثلا، شاركت فيها أنواع عديدة من العناصر والأجناس والأديان المختلفة، وساهمت في إثرائها ثقافات متعددة، فكل بثقافته شارك في تشييدها وازدهارها وكل ترك له بصمة في ناحية من النواحي الحياتية فيها.
هذا التعدد في الإسهامات الثقافية من شأنه أن يغني حضارة ما من الحضارات ويعززها وينميها، وعلى النقيض من ذلك، الحضارة التي تقوم على لون واحد أو شكل واحد أو صورة واحدة فهذه تعد حضارة فقيرة.. الحضارة الغنية هي التي تأخذ وتستفيد من الجميع وتقتبس من الكل. هذا ما يعبر عنه بالتنوع أو التعدد الثقافي الثري.
* التعددية الدينية:
مع التعددية العرقية واللسانية اللغوية والثقافية عموما، نجد أن هناك في الإسلام تعددية دينية، هذه التعددية الدينية مرتبطة بالتعددية الثقافية -التعدد الثقافي ينجم عنه تعدد ديني- ما دام الناس يتعددون ثقافيا فلابد أن يتعددوا دينياً. خلق الله الناس مختلفين، خلق لكل منهم عقلاً يفكر به، ومنحه إرادة يرجّح بها، ومنحه ملكات وقوى ومواهب مختلفة على أساسها يختار الناس لأنفسهم ما يريدونه. لو شاء الله أن يجعل الناس كلهم مؤمنين به لفطرهم على التوحيد والإيمان كما فطر الملائكة، ولكن الله خلق من خلقه خلقاً مفطورين على عبادته ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (16)، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ (17)، هؤلاء هم الملائكة، وخلق من خلقه نوعاً ميزه بالإرادة وبالاختيار، هو الذي يقرر مصيره بنفسه ولنفسه ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ (18)، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ (19)، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (20)، ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ (21)، أعطاه المشيئة والإرادة والاختيار والقدرة ليقرر مصيره ويسلك طريقه، هذا النوع هو الإنسان.
لم يشأ الله أن يجبره على دين واحد ولا على الإيمان به، بل ترك له الحرية قي هذه القضية، وأعطاه الأدوات التي يفكر بها وبعث له الرسل وأنزل له الكتب لتعاونه وتساعده على اختيار الطريق الذي يريده أن يسلكه، ولكن ترك له الخيرة. هكذا خلق الله ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (22)، (لذلك) أي وللاختلاف خلقهم، لأنه خلقهم متغايرين في الفكر والإرادة فلابد أن يتغايروا في الدين الذي يختارونه، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (23)، لا يكره الناس على دين ما أو على عقيدة معينة. نوح عليه السلام، على سبيل الذكر لا الحصر، قال لقومه ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (24)، أنلزمكم بالهداية ؟ لا بل أنتم أحرار في هذا المجال.
* التسامح مع غير المسلم:
خلق الله الناس على أديان مختلفة ويجب أن يسع أهل الأديان بعضهم بعضاً. لا يجبر أناس على أن يتركوا دينهم ليعتنقوا ديناً آخر، لم يأت الإسلام بهذا، لأنه ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (25)، ولذلك يحث الإسلام المسلم أن يسع المخالفين، لا أن يقهرهم على أن يتبعوا دينا واحدا، سواء كان ذلك الدين دينه هو أو دين غيره. كما لا يسمح الإسلام لأحد أن يقهر معتنقيه على ترك دينهم أو أن يمنعهم من طاعة ربهم. هذه التعددية الدينية هي التي قررها الإسلام منذ العهد المكي وفي العهد المدني أيضا.
نجد أن هناك سورة في القرآن جمعت بين أمرين قد يظنهما بعض الناس متناقضين، الاعتزاز بالدين إلى أقصى حد والتسامح مع المخالف إلى أقصى حد، هذه السورة هي سورة الكافرون. السورة الوحيدة التي خاطب الله فيها غير المسلمين في حياتهم الدنيا بعنوان الكافرين، فمن عادة القرآن أن يخاطب غير المسلم دائماً بـ (يا أيها الناس، يا بني آدم، يا عبادي، يا أهل الكتاب...) لكن ورد في هذه السورة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ (26). ويعود سبب نزولها لقصة مساومة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانوا يساومون النبي ويفاوضونه على أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، وهذه المساومات أراد القرآن أن يقطعها بقرار حاسم واضح جلي، ولذلك قال ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (27)، هذا التكرار والتأكيد يتبعه في نهاية السورة هذا التسامح العجيب ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (28).