رغد12
8 - 11 - 2008, 09:54 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حجة السنة النبوية الشريفة
العلامة محمد تقي الحكيم
1* السنة في اللغة، السنة عند الفقهاء والكلاميين، السنة عند الأصوليين، اتفاق واختلاف.
السنة النبويةحجيتها من الضروريات، الأدلة التي ذكروها على الحجية: الكتاب، السنة، الإجماع، العقل، ومناقشاتها إشكال ودفع.
تعريف السنة:
لكلمة (السنة) تحديدات تختلف باختلاف المصطلحين، فهي في عرف أهل اللغة (الطريقة المسلوكة، وأصلها من قولهم سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنا أي طريقا).
(وقال الكسائي: معناها الدوام، فقولنا: سنة، معناها الأمر بالإدامة من قولهم: سننت الماء إذا واليت في صبه).
(وقال الخطابي: أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة، كقوله: من سن سنة سيئة).
(وقيل: هي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة، كما في الحديث الصحيح: من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيمة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيمة(1)).
السنة عند الفقهاء والكلاميين:
وتطلق في عرف الفقهاء على ما يقابل البدعة، ويراد بها كل حكم يستند إلى أصول الشريعة في مقابل البدعة فإنها تطلق على (ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة(2)) وربما استعملها الكلاميون بهذا الاصطلاح، كما تطلق في اصطلاح آخر لهم على (ما يرجح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض(3)) وهي بذلك ترادف كلمة المستحب، وربما كان إطلاقها على النافلة في العبادات من باب إطلاق العام على الخاص، وكذلك إطلاقها على خصوص (ما واظب على فعله النبي (صلى الله عليه وآله) مع ترك ما بلا عذر(4)) كما جاء في بعض التحديدات.
السنة عند الأصوليين:
وقد اختلفوا في مدلولها من حيث السعة والضيق مع اتفاقهم على صدقها على (ما صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قول أو فعل أو تقرير) وقيدها الشوكاني بقوله (من غير القرآن) وهو قيد في غير موضعه لأن القرآن لم يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما صدر عن الله وبلغه النبي، فهو لا يصدق عليه أنه قوله إلا بضرب من التجوز والتجديد العلمي لا يتحمله، وهناك قيود أخر أضافها غير واحد كقولهم إذا كان في مقام التشريع وسيتضح إن هذه القيود لا موضع لها أيضا لأنه ما من شيء يصدر عن الإنسان بإرادته إلا وله في الشريعة حكم، فجميع ما يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) * بعد ثبوت عصمته * لابد أن يكون صادرا عن تشريع حكم وله دلالته في مقام التشريع العام إلا ما اختص به (صلى الله عليه وآله) وسيأتي الحديث فيه.
وموضع الاختلاف في التحديد توسعة الشاطبي لها إلى ما تشمل الصحابة حيث اعتبر ما يصدر عنهم سنة ويجري عليه أحكامها الخاصة من حيث الحجية، وربما وافقه بعضهم على ذلك، بينما وسعها الشيعة إلى ما يصدر عن أئمتهم (عليهم السلام) فهي عندهم كل ما يصدر عن المعصوم قولا وفعلا وتقريران، وبالطبع إن الذي يهمنا هو المصطلح الثالث أعني مفهومها عند الأصوليين لأن الحديث عن حجيتها إنما يتصل بهذه الناحية دون غيرها، وطبيعة المقارنة تستدعي استعراض آرائهم على اختلافها في هذه المسألة الهامة.
والحديث حول حجية السنة يقع في مواقع ثلاث:
1 * حجية ما صدر عن النبي من قول، أو فعل، أو تقرير.
2 * حجية ما صدر عن الصحابة من ذلك بالإضافة إلى معناها الأول، وهو الذي اختاره الشاطبي.
3 * حجية ما صدر عن الأئمة من أهل البيت بالإضافة إلى معناها الأول أيضا، وهو الذي تبناه الشيعة على اختلاف منهم في المراد من أئمة أهل البيت.
حجية السنة النبوية:
والحديث حول حجية ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، أوضح من أن يطال فيها الحديث، إذ لولاها لما اتضحت معالم الإسلام، ولتعطل العمل بالقرآن، ولما أمكن أن يستنبط منه حكم واحد بكل ما له من شرائط وموانع، لأن أحكام القرآن لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات ما يتصل بالحكم، وإنما هي واردة في بيان أصل التشريع، وربما لا نجد في حكما واحدا قد استكمل جميع خصوصياته قيودا وشرائط وموانع، خذوا على ذلك مثلا هذه الآيات المباركة (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة(5). كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم(6))، (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا(7))، ثم حاولوا التجرد عن تحديدات السنة لمفاهيمها وأجزائها وشرائطها وموانعها، فهل تستطيعون أن تخرجوا منها بمدلول محدد، وما يقال عن هذه الآيات يقال عن غيرها، فالقول بالاكتفاء بالكتاب عن الرجوع إلى السنة تعبير آخر عن التنكر لأصل الإسلام وهدم لأهم معالمه وركائزه العملية.
وقد قامت محاولات على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده للتشكيك بقيمة السنة، أمثال ما حدث به عبد الله بن عمرو، قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: انك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك للرسول، فقال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق(8))، وربما كان من ردود الفعل لموقف قريش هذا من السنة قول النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يحذر من مغبة تركها: (لا ألفينّ أحدكم على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه(9))، وقد حاولوا بعد ذلك أن تصبغ هذه الدعوة الهادمة بصبغة علمية على يد أتباعهم بعد حين، فاستدلوا لها بأن القرآن نزل تبيانا لكل شيء، وأمثالها من الأدلة التي ذكرها الشافعي في كتابه الأم وردّ عليها بأبلغ ردّ، وخلاصة ما جاء في رده: (إن القرآن لم يأت بكل شيء من ناحية، وفيه الكثير مما يحتاج إلى بيان من ناحية أخرى ، وسواء في ذلك العبادات والمعاملات، ولا يقوم بذلك إلا الرسول (صلى الله عليه وآله) بحكم رسالته التي عليه أن يقوم بها، وفي هذا يقول الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم(10))، ثم يقول (لو رددنا السنة كلها لصرنا إلى أمر عظيم لا يمكن قبوله، وهو أن من يأتي بأقل ما يسمى صلاة أو زكاة، فقد أدى ما عليه، ولو صلى ركعتين في كل يوم أو أيام إذ له أن يقول ما لم يكن فيه كتاب الله، فليس على أحد فيه فرض، ولكن السنة بينت لنا عدد الصلوات في اليوم وكيفياتها، والزكاة وأنواعها ومقاديرها، والأموال التي تجب فيها(11)).
والحقيقة، إن المناقشة في حجية السنة أو إنكارها مناقشة في الضروريات الدينية وإنكار لها، وليس لنا مع منكر الضروري من الدين حساب، لأنه خارج عن طبيعة رسالتنا بحكم خروجه عن الإسلام، يقول الشوكاني: (والحاصل إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظ له في دين الإسلام(12)) ويقول الخضري من المتأخرين: (وعلى الجملة فان حجية السنة من ضروريات الدين، أجمع عليها المسلمون ونطق بها القرآن(13)) وكذلك غيرهما من الأصوليين، والحقيقة إني لا أكاد أفهم معنى للإسلام بدون السنة، ومتى كانت حجيتها بهذه الدرجة من الوضوح، فان إقامة البرهان عليها لا معنى له، لأن أقصى ما يأتي به البرهان هو العلم بالحجية، وهو حاصل فعلا بدون الرجوع إليه، ولكن الأعلام من الأصوليين درجوا على ذكر أدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولابد لنا من مجاراتهم في هذا المجال مادمنا نريد أن نؤرخ لمبانيهم وحججها من جهة، ونقيمها بعد ذلك من الجهة الأخرى .
1 * حجيتها من القرآن:استدلوا بآيات من القرآن الكريم على اعتبار الحجية لها أمثال قوله تعالى : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول(14))، (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(15)، (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (16)).
ودلالة هذه الآيات في الجملة من أوضح الدلالات على حجيتها، إلا أنها فيما تبدو * أضيق من المدعى لأنها لا تشمل غير القول إلا بضرب من التجوز، والمراد إثباته عموم حجيتها لمطلق السنة قولا وفعلا وتقريرا.
الإجماع:
وقد حكاه غير واحد من الباحثين، يقول خلاف: (أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودا به التشريع والإقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أن الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين(17)) وفي سلم الوصول: (الإجماع العملي من عهد الرسول إلى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلا تستمد منه الأحكام، فان المسلمين في جميع العصور استدلوا على الأحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في السنة(18)).
ولا يعلم مخالف في ذلك من المسلمين على الإطلاق، إلا ما يبدو من أولئك الذين رد عليهم الشافعي وهم على طوائف ثلاث، وجل أقوالهم تنصب على السنة المروية لا على أصل السنة، فراجعها في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى(19).
ونقلة الإجماع على الحجية كثيرون، إلا أن الإشكال في حجية أصل الإجماع لدى البعض وفي مصدر حجيته لدى البعض الآخر، فان انكرنا حجية الإجماع أو قلنا: إن مصدره من السنة نفسها لم يعد يصلح للدليلية هنا، أما مع إنكار الحجية فواضح، وإما مع انحصار مصدره بالسنة فللزوم الدور لوضوح أن حجية الإجماع تكون موقوفة على حجية السنة، فإذا كانت حجية السنة موقوفة على حجية الإجماع، كانت المسألة دائرة.
دلالة السنة على حجية نفسها:وقد استدل بها غير واحد من الأصوليين، يقول الأستاذ سلام: كما دل على حجيتها ومنزلتها من الكتاب قوله (صلى الله عليه وآله) وإقراره لمعاذ بن جبل لما قال: أقضي بكتاب الله فان لم أجد فبسنة رسوله(20)) ويقول الأستاذ عمر عبد الله، وهو يعدد أدلته على حجة السنة: (ثانيا إن النبي (صلى الله عليه وآله) اعتبر السنة دليلا من الأدلة الشرعية ومصدرا من مصادر التشريع، كما دل على ذلك حديث معاذ بن جبل حينما بعثه الرسول إلى اليمن(21)).
وهذا النوع من الاستدلال لا يخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه، لأن حجية هذه الأدلة موقوفة على كونها من السنة، وكون السنة حجة، فلو توقف ثبوت حجية السنة عليها لزم الدور.
4 * دليل العقل:
ويراد من دليل العقل هنا، خصوص ما دل على عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) وامتناع صدور الذنب والغفلة والخطأ والسهو منه، ليمكن القطع بكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وتقريرات هي من قبيل التشريع، إذ مع العصمة لابد أن تكون جملة تصرفاته القولية والفعلية وما يتصل بها من إقرار موافقة للشريعة وهو معنى حجيتها.
وهذا الدليل من امتن ما يمكن أن يذكر من الأدلة على حجية السنة وإنكاره مساوق لإنكار النبوة من وجهة عقلية، إذ مع إمكان صدور المعصية منه أو الخطأ في التبليغ أو السهو أو الغفلة لا يمكن الوثوق أو القطع بما يدعي تأديته عن الله عز وجل لاحتمال العصيان أو السهو أو الغفلة أو الخطأ منه، ولا مدفع لهذا الاحتمال.
ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن تمامية الاحتجاج له أو عليه حتى في مجال دعواه النبوة، لما سبق أن قلنا من أن كل حجة لا تنتهي إلى القطع فهي ليست بحجة، لأن العلم مقوم للحجية.
فإذا ثبتت نبوته بالأدلة العقلية، فقد ثبتت عصمته حتما للتلازم بينهما، وبخاصة إذا آمنا باستحالة إصدار المعجزة من قبل الله تعالى على يد من يمكن أن يدعي النبوة كذبا لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين أو لغيرها على اختلاف في المبنى.
إشكال ودفع:
وقد يقال بعدم التلازم عقلا بين إثبات العصمة له وتحصيل الحجة على اعتبار * ما يصدر منه من قول أو فعل أو تقرير * من قبيل التشريع لأن الدليل العقلي غاية ما يثبت امتناع كذبه في ادعاء النبوة لاستحالة صدور المعجزة على يد مدعي النبوة كذبا لا مطلق صدور الذنب منه فضلا عن الخطأ والسهو والنسيان.
ودعوى عدم حصول العلم بكون ما يصدر عنه تشريعا، لاحتمال الخطأ، أو النسيان، أو الكذب في التبليغ، أو السهو، يدفعها الرجوع إلى أصالة عدم الخطأ، أو السهو، أو الغفلة ونظائرها، وهي من الأصول العقلائية التي يجري عليها الناس في اقعهم، ويكون حسابه حساب أئمة المذاهب، من حيث وجود هذه الاحتمالات فيهم، ومع ذلك فان الناس يثقون بأقوالهم ويدفعون الخطأ فيها أو السهو أو الغفلة، أو تعمد الكذب بأمثال هذه الأصول.
وهذا الإشكال من أعقد ما يمكن أن يذكر في هذا الباب، ولكن دفعه إنما يتم إذا تذكرنا ما سبق إن قلناه من أن كل حجة لا تنتهي إلى العلم فهي ليست بحجة، لأن القطع هو الحجة الوحيدة التي لا تحتاج إلى جعل، وبها ينقطع التسلسل ويرتفع الدور.
وهذه الأصول العقلائية التي يفزع إليها الناس في سلوكهم مع بعضهم، لا تحدث علما بمدلولها ولا تكشف عنه أصلا لا كشفا واقعيا ولا تعبديا.
أما نفي الكشف الواقعي عنها فواضح لعدم التلازم بين إجراء أصالة عدم الخطأ في سلوك شخص ما وبين إصابة الواقع والعلم به، ولو كان بينهما تلازم عقلي لأمكن إجراء هذا الأصل مثلا في حق أي شخص واعتبار ما يصدر عنه من السنة ولا خصوصية للنبي في ذلك.
وأما نفي الكشف التعبدي عنها فلأنه مما يحتاج إلى جعل من قبل الشارع، ومجرد بناء العقلاء لا يعطيه هذه الصفة ما لم يتم إمضاؤه من قبله.
وشأنه في ذلك شأن جميع ما يصدرون عنه من عادات وتقاليد وأعراف، والسر في ذلك أن القطع بصحة الاحتجاج به على الشارع لا يتم إلا إذا تم تبنيه من قبله وعلم ذلك منه، وكل حجة لا تنتهي إلى القطع بصحة الاحتجاج بها، فهي ليست بحجة كما سبق بيان ذلك مفصلا.
هذا إذا أعطينا هذه الأصول صفة الامارية، أما إذا جردناها منها واعتبرناها وظائف عقلائية جعلوها عند الشك لينتظم سلوكهم في الحياة، فأمرها أوضح لعدم حكايتها عن أي واقع ليعتبر ما تحكى عنه من قبيل التشريع.
والاعتماد عليها كوظائف لا يتم إلا إذا تم تبني الشارع لها بالإمضاء أيضا لنفس السبب السابق.
وعلى هذا فحجية هذه الأصول وأمثالها موقوفة على إمضاء الشارع لها بقوله أو تقريره، وكون هذا الإمضاء حجة أي موقوفة على حجية السنة، فلو كانت حجية السنة موقوفة عليها كما هو الفرض لزوم الدور.
لبداهة أن حجية الإقرار من قبله (صلى الله عليه وآله) مثلا موقوفة على حجية أصالة عدم الخطأ أو أصالة الصحة أو أصالة عدم الغفلة أو السهو، وحجية هذه الأصول موقوفة على حجية إقراره لها لو كان هناك إقرار، ومع إسقاط المتكرر ينتج إن حجية إقراره موقوفة على حجية إقراره.
والحقيقة إن القول بحجية السنة بشكلها الواسع، لا يلتئم مع إنكار العصمة أو بعض شؤونها بحال.
وليس المهم بعد ذلك أن ندخل في شؤون العصمة وأدلتها فان ذلك من بحوث علم الكلام.
والكلمات بعد ذلك مختلفة ومشتتة، والتأمل فيما عرضناه يكشف فيما نعتقد وجه الحق فيها.
ومهما قيل أو يقال في العصمة على صعيد علم الكلام فأنهم في الفقه مجمعون على اعتبار حجية السنة قولا وفعلا وتقريرا، وهو حسبنا في مجال المقارنة.
على أن حجيتها * كما سبق أن قلنا * ضرورة دينية لا يمكن لمسلم أن ينكرها وهو باق على الإسلام، والاعتراف بها ينطوي على الاعتراف بالعصمة حتما وعدم جواز الخطأ عليه خلافا للقاضي أبي بكر(22).
الهوامش:1- تراجع هذه الأقوال في إرشاد الفحول، ص33.
2- نهاية ابن الأثير مادة (بدع).
3- إرشاد الفحول، ص33.
4- إرشاد الفحول، ص33.
5- البقرة/43.
6- البقرة/183.
7- آل عمران/97.
8- المدخل للفقه الإسلامي، ص184، نقلا عن ابن عبد البر في جامعه، وأبي داود في سنته، والحاكم، وغيرهم.
9- مصطفى الزرقا، في كتابه، في الحديث النبوي، ص16ط / 2، وبمضمونه وردت عدة أحاديث اقرأها في الموافقات، ج / 4 ص15.
10- 11إقرا هذا الملخص وتتمته في كتاب (تاريخ الفقه الإسلامي) للدكتور محمد يوسف موسى، ص229.
12- إرشاد الفحول، ص33.
13- أصول الفقه، ص334.
14- النساء/58.
15- الحشر/7.
16- النجم/3/4.
17- علم أصول الفقه، ص39.
18- سلم الوصول، ص261.
19- ص227 وما بعدها.
20- المدخل للفقه الاسلامي ص225.
21- سلم الوصول ص261.
22- راجع أقوال المسألة في إرشاد الفحول، ص34.
حجة السنة النبوية الشريفة
العلامة محمد تقي الحكيم
1* السنة في اللغة، السنة عند الفقهاء والكلاميين، السنة عند الأصوليين، اتفاق واختلاف.
السنة النبويةحجيتها من الضروريات، الأدلة التي ذكروها على الحجية: الكتاب، السنة، الإجماع، العقل، ومناقشاتها إشكال ودفع.
تعريف السنة:
لكلمة (السنة) تحديدات تختلف باختلاف المصطلحين، فهي في عرف أهل اللغة (الطريقة المسلوكة، وأصلها من قولهم سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنا أي طريقا).
(وقال الكسائي: معناها الدوام، فقولنا: سنة، معناها الأمر بالإدامة من قولهم: سننت الماء إذا واليت في صبه).
(وقال الخطابي: أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة، كقوله: من سن سنة سيئة).
(وقيل: هي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة، كما في الحديث الصحيح: من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيمة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيمة(1)).
السنة عند الفقهاء والكلاميين:
وتطلق في عرف الفقهاء على ما يقابل البدعة، ويراد بها كل حكم يستند إلى أصول الشريعة في مقابل البدعة فإنها تطلق على (ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة(2)) وربما استعملها الكلاميون بهذا الاصطلاح، كما تطلق في اصطلاح آخر لهم على (ما يرجح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض(3)) وهي بذلك ترادف كلمة المستحب، وربما كان إطلاقها على النافلة في العبادات من باب إطلاق العام على الخاص، وكذلك إطلاقها على خصوص (ما واظب على فعله النبي (صلى الله عليه وآله) مع ترك ما بلا عذر(4)) كما جاء في بعض التحديدات.
السنة عند الأصوليين:
وقد اختلفوا في مدلولها من حيث السعة والضيق مع اتفاقهم على صدقها على (ما صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قول أو فعل أو تقرير) وقيدها الشوكاني بقوله (من غير القرآن) وهو قيد في غير موضعه لأن القرآن لم يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما صدر عن الله وبلغه النبي، فهو لا يصدق عليه أنه قوله إلا بضرب من التجوز والتجديد العلمي لا يتحمله، وهناك قيود أخر أضافها غير واحد كقولهم إذا كان في مقام التشريع وسيتضح إن هذه القيود لا موضع لها أيضا لأنه ما من شيء يصدر عن الإنسان بإرادته إلا وله في الشريعة حكم، فجميع ما يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) * بعد ثبوت عصمته * لابد أن يكون صادرا عن تشريع حكم وله دلالته في مقام التشريع العام إلا ما اختص به (صلى الله عليه وآله) وسيأتي الحديث فيه.
وموضع الاختلاف في التحديد توسعة الشاطبي لها إلى ما تشمل الصحابة حيث اعتبر ما يصدر عنهم سنة ويجري عليه أحكامها الخاصة من حيث الحجية، وربما وافقه بعضهم على ذلك، بينما وسعها الشيعة إلى ما يصدر عن أئمتهم (عليهم السلام) فهي عندهم كل ما يصدر عن المعصوم قولا وفعلا وتقريران، وبالطبع إن الذي يهمنا هو المصطلح الثالث أعني مفهومها عند الأصوليين لأن الحديث عن حجيتها إنما يتصل بهذه الناحية دون غيرها، وطبيعة المقارنة تستدعي استعراض آرائهم على اختلافها في هذه المسألة الهامة.
والحديث حول حجية السنة يقع في مواقع ثلاث:
1 * حجية ما صدر عن النبي من قول، أو فعل، أو تقرير.
2 * حجية ما صدر عن الصحابة من ذلك بالإضافة إلى معناها الأول، وهو الذي اختاره الشاطبي.
3 * حجية ما صدر عن الأئمة من أهل البيت بالإضافة إلى معناها الأول أيضا، وهو الذي تبناه الشيعة على اختلاف منهم في المراد من أئمة أهل البيت.
حجية السنة النبوية:
والحديث حول حجية ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، أوضح من أن يطال فيها الحديث، إذ لولاها لما اتضحت معالم الإسلام، ولتعطل العمل بالقرآن، ولما أمكن أن يستنبط منه حكم واحد بكل ما له من شرائط وموانع، لأن أحكام القرآن لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات ما يتصل بالحكم، وإنما هي واردة في بيان أصل التشريع، وربما لا نجد في حكما واحدا قد استكمل جميع خصوصياته قيودا وشرائط وموانع، خذوا على ذلك مثلا هذه الآيات المباركة (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة(5). كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم(6))، (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا(7))، ثم حاولوا التجرد عن تحديدات السنة لمفاهيمها وأجزائها وشرائطها وموانعها، فهل تستطيعون أن تخرجوا منها بمدلول محدد، وما يقال عن هذه الآيات يقال عن غيرها، فالقول بالاكتفاء بالكتاب عن الرجوع إلى السنة تعبير آخر عن التنكر لأصل الإسلام وهدم لأهم معالمه وركائزه العملية.
وقد قامت محاولات على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده للتشكيك بقيمة السنة، أمثال ما حدث به عبد الله بن عمرو، قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: انك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك للرسول، فقال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق(8))، وربما كان من ردود الفعل لموقف قريش هذا من السنة قول النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يحذر من مغبة تركها: (لا ألفينّ أحدكم على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه(9))، وقد حاولوا بعد ذلك أن تصبغ هذه الدعوة الهادمة بصبغة علمية على يد أتباعهم بعد حين، فاستدلوا لها بأن القرآن نزل تبيانا لكل شيء، وأمثالها من الأدلة التي ذكرها الشافعي في كتابه الأم وردّ عليها بأبلغ ردّ، وخلاصة ما جاء في رده: (إن القرآن لم يأت بكل شيء من ناحية، وفيه الكثير مما يحتاج إلى بيان من ناحية أخرى ، وسواء في ذلك العبادات والمعاملات، ولا يقوم بذلك إلا الرسول (صلى الله عليه وآله) بحكم رسالته التي عليه أن يقوم بها، وفي هذا يقول الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم(10))، ثم يقول (لو رددنا السنة كلها لصرنا إلى أمر عظيم لا يمكن قبوله، وهو أن من يأتي بأقل ما يسمى صلاة أو زكاة، فقد أدى ما عليه، ولو صلى ركعتين في كل يوم أو أيام إذ له أن يقول ما لم يكن فيه كتاب الله، فليس على أحد فيه فرض، ولكن السنة بينت لنا عدد الصلوات في اليوم وكيفياتها، والزكاة وأنواعها ومقاديرها، والأموال التي تجب فيها(11)).
والحقيقة، إن المناقشة في حجية السنة أو إنكارها مناقشة في الضروريات الدينية وإنكار لها، وليس لنا مع منكر الضروري من الدين حساب، لأنه خارج عن طبيعة رسالتنا بحكم خروجه عن الإسلام، يقول الشوكاني: (والحاصل إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظ له في دين الإسلام(12)) ويقول الخضري من المتأخرين: (وعلى الجملة فان حجية السنة من ضروريات الدين، أجمع عليها المسلمون ونطق بها القرآن(13)) وكذلك غيرهما من الأصوليين، والحقيقة إني لا أكاد أفهم معنى للإسلام بدون السنة، ومتى كانت حجيتها بهذه الدرجة من الوضوح، فان إقامة البرهان عليها لا معنى له، لأن أقصى ما يأتي به البرهان هو العلم بالحجية، وهو حاصل فعلا بدون الرجوع إليه، ولكن الأعلام من الأصوليين درجوا على ذكر أدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولابد لنا من مجاراتهم في هذا المجال مادمنا نريد أن نؤرخ لمبانيهم وحججها من جهة، ونقيمها بعد ذلك من الجهة الأخرى .
1 * حجيتها من القرآن:استدلوا بآيات من القرآن الكريم على اعتبار الحجية لها أمثال قوله تعالى : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول(14))، (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(15)، (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (16)).
ودلالة هذه الآيات في الجملة من أوضح الدلالات على حجيتها، إلا أنها فيما تبدو * أضيق من المدعى لأنها لا تشمل غير القول إلا بضرب من التجوز، والمراد إثباته عموم حجيتها لمطلق السنة قولا وفعلا وتقريرا.
الإجماع:
وقد حكاه غير واحد من الباحثين، يقول خلاف: (أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودا به التشريع والإقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أن الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين(17)) وفي سلم الوصول: (الإجماع العملي من عهد الرسول إلى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلا تستمد منه الأحكام، فان المسلمين في جميع العصور استدلوا على الأحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في السنة(18)).
ولا يعلم مخالف في ذلك من المسلمين على الإطلاق، إلا ما يبدو من أولئك الذين رد عليهم الشافعي وهم على طوائف ثلاث، وجل أقوالهم تنصب على السنة المروية لا على أصل السنة، فراجعها في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى(19).
ونقلة الإجماع على الحجية كثيرون، إلا أن الإشكال في حجية أصل الإجماع لدى البعض وفي مصدر حجيته لدى البعض الآخر، فان انكرنا حجية الإجماع أو قلنا: إن مصدره من السنة نفسها لم يعد يصلح للدليلية هنا، أما مع إنكار الحجية فواضح، وإما مع انحصار مصدره بالسنة فللزوم الدور لوضوح أن حجية الإجماع تكون موقوفة على حجية السنة، فإذا كانت حجية السنة موقوفة على حجية الإجماع، كانت المسألة دائرة.
دلالة السنة على حجية نفسها:وقد استدل بها غير واحد من الأصوليين، يقول الأستاذ سلام: كما دل على حجيتها ومنزلتها من الكتاب قوله (صلى الله عليه وآله) وإقراره لمعاذ بن جبل لما قال: أقضي بكتاب الله فان لم أجد فبسنة رسوله(20)) ويقول الأستاذ عمر عبد الله، وهو يعدد أدلته على حجة السنة: (ثانيا إن النبي (صلى الله عليه وآله) اعتبر السنة دليلا من الأدلة الشرعية ومصدرا من مصادر التشريع، كما دل على ذلك حديث معاذ بن جبل حينما بعثه الرسول إلى اليمن(21)).
وهذا النوع من الاستدلال لا يخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه، لأن حجية هذه الأدلة موقوفة على كونها من السنة، وكون السنة حجة، فلو توقف ثبوت حجية السنة عليها لزم الدور.
4 * دليل العقل:
ويراد من دليل العقل هنا، خصوص ما دل على عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) وامتناع صدور الذنب والغفلة والخطأ والسهو منه، ليمكن القطع بكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وتقريرات هي من قبيل التشريع، إذ مع العصمة لابد أن تكون جملة تصرفاته القولية والفعلية وما يتصل بها من إقرار موافقة للشريعة وهو معنى حجيتها.
وهذا الدليل من امتن ما يمكن أن يذكر من الأدلة على حجية السنة وإنكاره مساوق لإنكار النبوة من وجهة عقلية، إذ مع إمكان صدور المعصية منه أو الخطأ في التبليغ أو السهو أو الغفلة لا يمكن الوثوق أو القطع بما يدعي تأديته عن الله عز وجل لاحتمال العصيان أو السهو أو الغفلة أو الخطأ منه، ولا مدفع لهذا الاحتمال.
ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن تمامية الاحتجاج له أو عليه حتى في مجال دعواه النبوة، لما سبق أن قلنا من أن كل حجة لا تنتهي إلى القطع فهي ليست بحجة، لأن العلم مقوم للحجية.
فإذا ثبتت نبوته بالأدلة العقلية، فقد ثبتت عصمته حتما للتلازم بينهما، وبخاصة إذا آمنا باستحالة إصدار المعجزة من قبل الله تعالى على يد من يمكن أن يدعي النبوة كذبا لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين أو لغيرها على اختلاف في المبنى.
إشكال ودفع:
وقد يقال بعدم التلازم عقلا بين إثبات العصمة له وتحصيل الحجة على اعتبار * ما يصدر منه من قول أو فعل أو تقرير * من قبيل التشريع لأن الدليل العقلي غاية ما يثبت امتناع كذبه في ادعاء النبوة لاستحالة صدور المعجزة على يد مدعي النبوة كذبا لا مطلق صدور الذنب منه فضلا عن الخطأ والسهو والنسيان.
ودعوى عدم حصول العلم بكون ما يصدر عنه تشريعا، لاحتمال الخطأ، أو النسيان، أو الكذب في التبليغ، أو السهو، يدفعها الرجوع إلى أصالة عدم الخطأ، أو السهو، أو الغفلة ونظائرها، وهي من الأصول العقلائية التي يجري عليها الناس في اقعهم، ويكون حسابه حساب أئمة المذاهب، من حيث وجود هذه الاحتمالات فيهم، ومع ذلك فان الناس يثقون بأقوالهم ويدفعون الخطأ فيها أو السهو أو الغفلة، أو تعمد الكذب بأمثال هذه الأصول.
وهذا الإشكال من أعقد ما يمكن أن يذكر في هذا الباب، ولكن دفعه إنما يتم إذا تذكرنا ما سبق إن قلناه من أن كل حجة لا تنتهي إلى العلم فهي ليست بحجة، لأن القطع هو الحجة الوحيدة التي لا تحتاج إلى جعل، وبها ينقطع التسلسل ويرتفع الدور.
وهذه الأصول العقلائية التي يفزع إليها الناس في سلوكهم مع بعضهم، لا تحدث علما بمدلولها ولا تكشف عنه أصلا لا كشفا واقعيا ولا تعبديا.
أما نفي الكشف الواقعي عنها فواضح لعدم التلازم بين إجراء أصالة عدم الخطأ في سلوك شخص ما وبين إصابة الواقع والعلم به، ولو كان بينهما تلازم عقلي لأمكن إجراء هذا الأصل مثلا في حق أي شخص واعتبار ما يصدر عنه من السنة ولا خصوصية للنبي في ذلك.
وأما نفي الكشف التعبدي عنها فلأنه مما يحتاج إلى جعل من قبل الشارع، ومجرد بناء العقلاء لا يعطيه هذه الصفة ما لم يتم إمضاؤه من قبله.
وشأنه في ذلك شأن جميع ما يصدرون عنه من عادات وتقاليد وأعراف، والسر في ذلك أن القطع بصحة الاحتجاج به على الشارع لا يتم إلا إذا تم تبنيه من قبله وعلم ذلك منه، وكل حجة لا تنتهي إلى القطع بصحة الاحتجاج بها، فهي ليست بحجة كما سبق بيان ذلك مفصلا.
هذا إذا أعطينا هذه الأصول صفة الامارية، أما إذا جردناها منها واعتبرناها وظائف عقلائية جعلوها عند الشك لينتظم سلوكهم في الحياة، فأمرها أوضح لعدم حكايتها عن أي واقع ليعتبر ما تحكى عنه من قبيل التشريع.
والاعتماد عليها كوظائف لا يتم إلا إذا تم تبني الشارع لها بالإمضاء أيضا لنفس السبب السابق.
وعلى هذا فحجية هذه الأصول وأمثالها موقوفة على إمضاء الشارع لها بقوله أو تقريره، وكون هذا الإمضاء حجة أي موقوفة على حجية السنة، فلو كانت حجية السنة موقوفة عليها كما هو الفرض لزوم الدور.
لبداهة أن حجية الإقرار من قبله (صلى الله عليه وآله) مثلا موقوفة على حجية أصالة عدم الخطأ أو أصالة الصحة أو أصالة عدم الغفلة أو السهو، وحجية هذه الأصول موقوفة على حجية إقراره لها لو كان هناك إقرار، ومع إسقاط المتكرر ينتج إن حجية إقراره موقوفة على حجية إقراره.
والحقيقة إن القول بحجية السنة بشكلها الواسع، لا يلتئم مع إنكار العصمة أو بعض شؤونها بحال.
وليس المهم بعد ذلك أن ندخل في شؤون العصمة وأدلتها فان ذلك من بحوث علم الكلام.
والكلمات بعد ذلك مختلفة ومشتتة، والتأمل فيما عرضناه يكشف فيما نعتقد وجه الحق فيها.
ومهما قيل أو يقال في العصمة على صعيد علم الكلام فأنهم في الفقه مجمعون على اعتبار حجية السنة قولا وفعلا وتقريرا، وهو حسبنا في مجال المقارنة.
على أن حجيتها * كما سبق أن قلنا * ضرورة دينية لا يمكن لمسلم أن ينكرها وهو باق على الإسلام، والاعتراف بها ينطوي على الاعتراف بالعصمة حتما وعدم جواز الخطأ عليه خلافا للقاضي أبي بكر(22).
الهوامش:1- تراجع هذه الأقوال في إرشاد الفحول، ص33.
2- نهاية ابن الأثير مادة (بدع).
3- إرشاد الفحول، ص33.
4- إرشاد الفحول، ص33.
5- البقرة/43.
6- البقرة/183.
7- آل عمران/97.
8- المدخل للفقه الإسلامي، ص184، نقلا عن ابن عبد البر في جامعه، وأبي داود في سنته، والحاكم، وغيرهم.
9- مصطفى الزرقا، في كتابه، في الحديث النبوي، ص16ط / 2، وبمضمونه وردت عدة أحاديث اقرأها في الموافقات، ج / 4 ص15.
10- 11إقرا هذا الملخص وتتمته في كتاب (تاريخ الفقه الإسلامي) للدكتور محمد يوسف موسى، ص229.
12- إرشاد الفحول، ص33.
13- أصول الفقه، ص334.
14- النساء/58.
15- الحشر/7.
16- النجم/3/4.
17- علم أصول الفقه، ص39.
18- سلم الوصول، ص261.
19- ص227 وما بعدها.
20- المدخل للفقه الاسلامي ص225.
21- سلم الوصول ص261.
22- راجع أقوال المسألة في إرشاد الفحول، ص34.