إيمان علي
3 - 7 - 2010, 03:48 PM
قدَّم أحد طلاب الجامعة المصرية رسالةً موضوعها: "الفن القصصي في القرآن"؛ لينال بها لقب "دكتور"، وقد تناولت الصحف الحديث عن هذه الرسالة، ودارت مناقشات حادَّة، هذا يعدُّها من قبيل الإلحاد في آيات الله، وذاك يقف بجانبها، ويناضل عنها مناضلة الراضي عن آرائها، ووقف بعض الشُّبَّان بين هؤلاء يتعرَّفون وجه الحق فيما يتناظر فيه الفريقان؛ وكنا ننتظر أن تقع الرسالة في أيدينا، لنلقي عليها نظرة فاحصة، حتى اطلعنا في مجلة "الرسالة" على نص التقرير الذي بَعث به إلى عميد كلية الآداب أحدُ أعضاء اللجنة التي ألِّفت لفحص الرسالة، وهو الأستاذ أحمد أمين، ثم اطلعنا في جريدة "أخبار اليوم" على مقال لأستاذ من أعضاء هذه اللجنة أيضًا يعلن فيه أنه راضٍ عمَّا تضمَّنته الرسالة، وأنَّه هو الواضع للمنهج الذي تقدم عليه كاتب الرسالة لدرس القرآن، ثُمَّ اطَّلعنا في مجلة "الرسالة" على مقال لكاتب الرسالة ساق فيه نصوصًا لبعض المفسرين والأصوليين، وأخرى لل*** مُحمَّد عبده وال*** رشيد رضا، بدعوى أن هذه النصوص تشد عضده، وتجعل ما كتبه حقيقة معتَرَفًا بها من قبل، ولما تجمع لدي تقرير الأستاذ أحمد أمين، وما كتبه الأستاذ الراضي عمَّا كتب في الرسالة؛ بل الموجه لصاحبها إلى ما وضع، ثم ما نشره كاتب الرسالة نفسُه من بعد – رأيت أن أكتب كلمة على حسب ما اطلعت عليه في الصحف، وفيما اطلعت عليه الكفاية.
صدَّر الأستاذ أحمد أمين تقريره بالعبارة الآتية:
"وقد وجدتُها رسالة ليست عادية؛ بل هي رسالة خطيرة، أساسها أنَّ القَصَص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام لصدق التاريخ، والواقع أنَّ محمدًا فنَّان بِهذا المعنى"، ثم قال: "وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن أسوق بعض أمثلة توضح مرامي كاتب هذه الرسالة، وكيفية بنائها"، ثم أورد الأستاذ أحمد أمين أمثلة منتزعة من الرسالة، تشهد بما وصفها به في هذه العبارة المجملة.
جاء في التقرير ما يأتي:
"يرى (يعني كاتب الرسالة) أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويرًا فنيًّا؛ بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد، مثل أن البشرى بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته؛ بل تكون القصة مخلوقة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116]... إلخ" (ص 14 وما بعدها).
ما يرد في القرآن على وجه الإخبار لا يكون إلا موافقًا للواقع، هذا ما يقتضيه الإيمان بأنه تنزيل من عليم حكيم، ولو أجزنا أن يكون فيه أقوال غير مطابقة للواقع لكان معنى ذلك أن من أقواله ما يكون كذبًا، وليس الكذب سوى عدم مطابقة الكلام للواقع، وإذا كان الفضلاء من الناس يتبرؤون من أن يقولوا زورًا، ويعدونه في أقبح الرذائل المزرية بالإنسانية، فما كان لنا أن نلصقه بكلام ذي العزة والجلال، ناظرين إلى مقام الربوبية كما ننظر إلى شاعر أو كاتب قد يعجز عن أن يظهر براعته الفنية في الحوادث الواقعة تاريخيًّا.
يصف كاتب الرسالة الكتابَ الحكيم بالتَّناقُض في رواية الخبر الواحد، مستدلاً بذلك على أنَّه لا يلتزم الصدق التاريخي، ويقول: "بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد مثل أنَّ البشرى بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته".
التناقض في الأخبار أن يختلف الخبران بالإيجاب والسلب، مع اتِّحادِهِما فيما عدا ذلك، ويلزم من صدق أحدِهِما كذبُ الآخر؛ كأن تقول: بشرت زيدًا بقدوم ابنه، ثم تقول: لم أبشر زيدًا بقدوم ابنه، ومثل هذا الضرب من الكلام لم يقع في الآية الكريمة، وإنما ورد أن الله بشر عن طريق الملائكة إبراهيم - عليه السلام - بغلام، كما قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}[1]، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}[2] وفي آية أخرى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}[3]، وورد في آية أخرى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}[4]، ومن المعقول أن يبشر الملائكة إبراهيم - عليه السلام - ثم يبشروا امرأته بغلام هو إسحاق، فيذكر في آية أنَّهم بشَّروا به إبراهيم، ويذكر في آية أخرى أنهم بشروا به امرأته، ومن ذا الذي يتوهم أنَّ في مثل هاتين البشارتين شيئًا من التناقض أو ما يشبه التناقض؟!
يزعم كاتب الرسالة أنَّ القرآن يَختلقُ بعض القصص، فقال: "بل تكون القصة مخلوقة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ...} إلخ.
ولا ندري ما هو الدليل الذي ينهض أمام هذه الآية، ويدل على أنَّ القصة المشار إليها مخلوقة غير واقعة، والأدلَّة في مثل هذا إمَّا نصوص تاريخية ثابتة الرواية، وإمَّا أن يشعر المتكلم مخاطبه بأنه يريد تصوير حادثة تصويرًا فنيًّا، وإما أن يبدو للمخاطب من طبيعة الحادثة ما يجعلها مستحيلة الوقوع، ولم يرد نص تاريخي ينفي ما اشتملت عليه القصة من خطاب الله تعالى لعيسى، وجواب عيسى عليه السلام، ولم يقل الله تعالى - لا صراحة ولا تلويحًا - إن هذه القصة مخلوقة غير واقعة، وإنما أريد تصوير حادثة تصويرًا فنيًّا، وليس في القصة معنى يحكم العقل المنطقي باستحالته.
وقال كاتب الرسالة، على ما جاء في التقرير: "إن الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنَّبِيِّ ليست تاريخيَّة ولا واقعة، وإنَّما هي تصوير نفسي عن أحداث مضت أو أغرقت في القدم، سواء كان ذلك الواقع متَّفقًا مع الحقِّ والواقع، أو مخالفًا له" (ص 28).
نتحدَّثُ مع صاحب الرسالة في هذا الموضوع الدِّيني بِصفته مسلمًا، فنقول: قد قام الدليل القاطع على أن القرآن كلام الله، وأنَّ رسوله مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ ما أنزل إليه من ربه، فكل ما جاء في القرآن من خبر فهو صادق، وإنما الصدق مطابقة الكلام للواقع، ونستند في الجزم بصدق أخبار القرآن إلى الدليل القائم على صدق الرسول في دعوى الرسالة، والدليل القائم على أن القرآن وحي من الله جل شأنه، ولو كان القائل: "إن النبي - عليه الصلاة والسلام - إنَّما يصور واقعًا في نفسه، سواء كان ذلك الواقع متفقًا مع الحق والواقع، أم مخالفًا" لا ينتمي إلى الإسلام؛ لقلنا: نحن معنا أدلة لا تحوم حولها شبهة على أن القرآن لا يقول إلا حقًّا، فإن أبَيْتَ أن تصغي إليها بأذن واعية، فاعمد إلى قصة من قصص القرآن، وأقم على أنَّها مُخالِفَةٌ لِلحَقِّ دليلاً يقرُّه المنطق، ويتقبله العقل.
يقول كاتب الرسالة: "إن المشركين كانوا يوجهون إلى النبي أسئلة، وإن الإجابة عنها ليست تاريخية ولا واقعة".
ونحن لا ندري من أين عرف كاتب الرسالة أن إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أسئلة المشركين لم تكن تاريخية ولا واقعة! فقد يهمل التاريخ أحداثًا، فلا يدل عليها صراحة ولا رمزًا، ولكنه لا يستطيع أن يأتي إلى أحدث أخبر عنها القرآن على وجه خاص، ويحكم عليها بأنها غير واقعة حكمًا يدخل إليه من باب الروية والإنصاف.
قال كاتب الرسالة:
"والقرآن يقرِّرُ أنَّ الجِنَّ تعلَمُ بعضَ الشيءِ، ثُمَّ لمَّا تقدَّم الزمن قرَّر القرآنُ أنَّهم لا يعلمون شيئًا (ص 29)، والمُفَسِّرُون مُخطِئُونَ حين يأخذون الأمر مأخَذَ الجد" (ص 30).
لم يقرر القرآن أن الجن لا يعلمون شيئًا، وإنما قال في قصة وفاة سليمان - عليه السلام -: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[5].
فالآية إنما نفت عن الجن علم الغيب، وهو ما يحصل للعالِم لذاته، ومن هنا كان مختصًّا بالخالق جل شأنه، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}[6]، فدلت الآية على أن علم الغيب خاص به تعالى، وأما غيره فلا يعلم الأشياء الغائبة عنه لذاته، وإنما يعلم منها ما يعلمه الله، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[7]، ومن هنا نفهم كيف ينفي النبي - عليه الصلاة والسلام - عن نفسه علم الغيب، مع أن الله تعالى قد أظهره على أشياء كثيرة كانت غائبة عنه، فقال: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، فنفي علم الغيب عن الجن لا ينافي أنهم يعلمون بعض الأشياء بطريق من طرق العلم الخفية.
فكاتب الرسالة مخطئ في فهمه أنَّ بين الآية التي تثبت للجن العلم ببعض الشيء، والآية التي تنفي عنها علم الغيب - تناقضًا.
قال كاتب الرسالة:
"الأنبياء أبطال وُلِدُوا في البيئة، وتأدَّبوا بآدابِها، وخالطوا الأهل والعشيرة وقلَّدوهم في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، ودانوا بما تَدين به من رأي، وعبدوا ما يعبد من إله" (ص27).
أجْمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، ومِمَّن حكى الإجماع على هذا الإمام عضد الدين في كتاب "المواقف"، والقاضي عياض في كتاب "الشفاء".
ولكن كاتب الرسالة يقول: إنَّهم قلَّدوا الأهل والعشيرة في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، وعبدوا ما يعبد من إله.
وإنما يقول هذا، ويخرج عن إجماع المسلمين مَنِ استطاع أن يملأ يده من روايات تاريخية صحيحة، أو استطاع أن يُقيم دليلاً نظريًّا يسَعُه المنطق السليم، وليس بيد الكاتب نقل مقبول، ولا دليل معقول، وإنَّما هي دعوى عارية من كل شاهد، فلندع بسط الحديث عنها حتى نعرف الشبهة التي دفعتِ الكاتب إليها، حتَّى عبَّر عنها بجمل يؤكد بعضها بعضًا، وأسرف في تسويتهم بالمشركين، إلى أنْ قال لك: "وقلَّدوهم في كل ما يقال ويفعل"!
قال كاتب الرسالة:
"تصوير أخلاق الأمم كبني إسرائيل ليس بضروري أن يكون واقعًا؛ بل يصح أن يكون تصويرًا فنيًّا يُلاحظ الواقع النفسي أكثر من صدق القضايا... إلخ" (ص 75).
القرآن وحي سماوي، فإذا وصف أخلاق أمم كبني إسرائيل دلَّ بالضرورة على أنَّ وصفهم بتلك الأخلاق واقعي، ومنِ ادَّعى أن القرآن غير صادق فيما وصف، فليأتِ بآية وصفت بعض الأمم بأخلاق، ودلَّتِ الرواية أوِ الدراية على أن هذا الوصف غير مطابق للواقع.
قال كاتب الرسالة:
"القصة هي العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطلٍ لا وجودَ له، أو لبطلٍ له وجود، ولكن الحوادث التي ألَمَّت به لم تقع أصلاً، أو وقعت ولكنها نظمت على أساس فني، إذ قدم بعضها وأخر بعضها، أو حذف بعضها وأضيف إلى الباقي بعض آخر، أو بولغ في تصويرها إلى حد يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون حقيقيَّة إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخيالية، وهذا قصدنا في هذا البحث من الدراسة القرآنية" (ص 81).
هذا الذي يقوله الكاتب إنَّما ينطبق على القصص التي يقصد من تصنيفها إظهار البراعة في صناعة الإنشاء، أو في إجالة الخيال، أو بعث الارتياح والمتعة في نفوس القارئين؛ مثل مقامات بديع الزمان، أو مقامات الحريري، أو القصص التي تنشر اليوم في بعض الصحف السائرة، أما قصص القرآن فهي من كلام رب العزة، أوحى به إلى الرسول الأكرم؛ ليكون مأخذ عبرة، أو موضع قدوة، أو مَجلاة حكمة، وإيمان الناس بأنه صادر من ذلك المقام الأسنى يجعل له في قلوبهم مكانة محفوفة بالإجلال، ويمنعهم من أن يدرسوه كما تدرس تلك القصص الصادرة من نفوس بشرية تجعل أمامها أهدافًا خاصَّة، ثُمَّ لا تبالي أن تستمد ما تقوله من خيال غير صادق، أو تخرج من جِدٍّ إلى هزل، وتضع بجانب الحق باطلاً.
قال كاتب الرسالة:
"أخطأ الأقدمون في عد القصص تاريخًا" (ص 83).
لم يُخطئِ المتقدِّمون ولا المتأخِّرون في عدِّ القصص تاريخًا؛ بل هم على بينة من أمرهم، إذ يعدون القرآن أصحَّ مصدر لِما يقص من شؤون الأمم الغابرة، والأمم التي كانت تعيش وقت نزوله؛ ذلك أنَّ الدَّليل القائم على أنَّ القرآن وحْيٌ إلَهي هو الدَّليل الذي يشهد بأنَّ قَصَصَه تاريخ حقّ، لازم للإيمان بأنَّهُ وحي سماوي، ومن يَزْعُم أنَّهُ يوجد هذا الإيمان بدون ذلك الاعتقاد فهو كمن يزعم أن الشمس طالعة والنهار غير موجود.
قال كاتب الرسالة:
"منهجه (أي القرآن) هو معالجة القصة من حيث هي أدب، ويعني بذلك خلق الصور والابتكار والاختراع (ص84)؛ ولذلك لا مانع من اختلاف تصور الشخصية الواحدة في القرآن" (ص 85).
لم يعالج القرآنُ القِصَّة من حيث هي أدب، وإنَّما يوردها من حيث إنه مطلع حكمة، ومأخذ عبرة، ومرآة حقيقة، وحيث كان لبلاغة القول بعد حكمة المعنى وقوة الحجة، أثر زائد في توجيه النفوس إلى الصراط السوي، أنزل الله القرآن كله في أفصح الألفاظ، وأبدع الأساليب، حتى بلغ بحسن بيانه أنَّه كان المعجزة الخالدة.
وأشار الأستاذ أحمد أمين في تقريره إلى أن كاتب الرسالة يسمي القصة في القرآن أسطورة، فقال عازيًا إلى تلك الرسالة: "وجود القصة الأسطورية في القرآن" (ص 89)، ثم اطَّلعنا على مقال لكاتب الرسالة نشره في مجلة "الرسالة"، يقول فيه: "وأرجو أن لا يزعجنا هذا اللفظ (أسطورة)، ونقع في أخطاء وقع فيها غيرُنا حين ظنَّ أنَّ معنى الأسطورة الكذب والمين، أو الخرافات والأوهام، فذلك ما لم يقصد إليه القرآن الكريم"، وقال: "ليستِ الأسطورة في حس القرآن الكريم إلا ما سطره الأقدمون من أخبارهم وأقاصيصهم، بذلك تنطق آياته، وإلى ذلك فطِنَ المفسرون"، ثم نقل عن الطبري تفسيره للأسطورة بِما: "سطرَهُ الأوَّلون وكتبوه من أخبار الأمم"، ونقل عن "الكشاف" أنَّه فسَّرها: "بما سطره المتقدمون من نحو الحديث عن رستم، واسفنديار"، ثم نقل عن "المنار" لل*** رشيد رضا أنَّه فسر الأساطير في قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]: "بقصص الأولين وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتِها، وما هي بوحي من الله".
صدَّر الأستاذ أحمد أمين تقريره بالعبارة الآتية:
"وقد وجدتُها رسالة ليست عادية؛ بل هي رسالة خطيرة، أساسها أنَّ القَصَص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام لصدق التاريخ، والواقع أنَّ محمدًا فنَّان بِهذا المعنى"، ثم قال: "وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن أسوق بعض أمثلة توضح مرامي كاتب هذه الرسالة، وكيفية بنائها"، ثم أورد الأستاذ أحمد أمين أمثلة منتزعة من الرسالة، تشهد بما وصفها به في هذه العبارة المجملة.
جاء في التقرير ما يأتي:
"يرى (يعني كاتب الرسالة) أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويرًا فنيًّا؛ بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد، مثل أن البشرى بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته؛ بل تكون القصة مخلوقة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116]... إلخ" (ص 14 وما بعدها).
ما يرد في القرآن على وجه الإخبار لا يكون إلا موافقًا للواقع، هذا ما يقتضيه الإيمان بأنه تنزيل من عليم حكيم، ولو أجزنا أن يكون فيه أقوال غير مطابقة للواقع لكان معنى ذلك أن من أقواله ما يكون كذبًا، وليس الكذب سوى عدم مطابقة الكلام للواقع، وإذا كان الفضلاء من الناس يتبرؤون من أن يقولوا زورًا، ويعدونه في أقبح الرذائل المزرية بالإنسانية، فما كان لنا أن نلصقه بكلام ذي العزة والجلال، ناظرين إلى مقام الربوبية كما ننظر إلى شاعر أو كاتب قد يعجز عن أن يظهر براعته الفنية في الحوادث الواقعة تاريخيًّا.
يصف كاتب الرسالة الكتابَ الحكيم بالتَّناقُض في رواية الخبر الواحد، مستدلاً بذلك على أنَّه لا يلتزم الصدق التاريخي، ويقول: "بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد مثل أنَّ البشرى بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته".
التناقض في الأخبار أن يختلف الخبران بالإيجاب والسلب، مع اتِّحادِهِما فيما عدا ذلك، ويلزم من صدق أحدِهِما كذبُ الآخر؛ كأن تقول: بشرت زيدًا بقدوم ابنه، ثم تقول: لم أبشر زيدًا بقدوم ابنه، ومثل هذا الضرب من الكلام لم يقع في الآية الكريمة، وإنما ورد أن الله بشر عن طريق الملائكة إبراهيم - عليه السلام - بغلام، كما قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}[1]، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}[2] وفي آية أخرى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}[3]، وورد في آية أخرى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}[4]، ومن المعقول أن يبشر الملائكة إبراهيم - عليه السلام - ثم يبشروا امرأته بغلام هو إسحاق، فيذكر في آية أنَّهم بشَّروا به إبراهيم، ويذكر في آية أخرى أنهم بشروا به امرأته، ومن ذا الذي يتوهم أنَّ في مثل هاتين البشارتين شيئًا من التناقض أو ما يشبه التناقض؟!
يزعم كاتب الرسالة أنَّ القرآن يَختلقُ بعض القصص، فقال: "بل تكون القصة مخلوقة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ...} إلخ.
ولا ندري ما هو الدليل الذي ينهض أمام هذه الآية، ويدل على أنَّ القصة المشار إليها مخلوقة غير واقعة، والأدلَّة في مثل هذا إمَّا نصوص تاريخية ثابتة الرواية، وإمَّا أن يشعر المتكلم مخاطبه بأنه يريد تصوير حادثة تصويرًا فنيًّا، وإما أن يبدو للمخاطب من طبيعة الحادثة ما يجعلها مستحيلة الوقوع، ولم يرد نص تاريخي ينفي ما اشتملت عليه القصة من خطاب الله تعالى لعيسى، وجواب عيسى عليه السلام، ولم يقل الله تعالى - لا صراحة ولا تلويحًا - إن هذه القصة مخلوقة غير واقعة، وإنما أريد تصوير حادثة تصويرًا فنيًّا، وليس في القصة معنى يحكم العقل المنطقي باستحالته.
وقال كاتب الرسالة، على ما جاء في التقرير: "إن الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنَّبِيِّ ليست تاريخيَّة ولا واقعة، وإنَّما هي تصوير نفسي عن أحداث مضت أو أغرقت في القدم، سواء كان ذلك الواقع متَّفقًا مع الحقِّ والواقع، أو مخالفًا له" (ص 28).
نتحدَّثُ مع صاحب الرسالة في هذا الموضوع الدِّيني بِصفته مسلمًا، فنقول: قد قام الدليل القاطع على أن القرآن كلام الله، وأنَّ رسوله مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ ما أنزل إليه من ربه، فكل ما جاء في القرآن من خبر فهو صادق، وإنما الصدق مطابقة الكلام للواقع، ونستند في الجزم بصدق أخبار القرآن إلى الدليل القائم على صدق الرسول في دعوى الرسالة، والدليل القائم على أن القرآن وحي من الله جل شأنه، ولو كان القائل: "إن النبي - عليه الصلاة والسلام - إنَّما يصور واقعًا في نفسه، سواء كان ذلك الواقع متفقًا مع الحق والواقع، أم مخالفًا" لا ينتمي إلى الإسلام؛ لقلنا: نحن معنا أدلة لا تحوم حولها شبهة على أن القرآن لا يقول إلا حقًّا، فإن أبَيْتَ أن تصغي إليها بأذن واعية، فاعمد إلى قصة من قصص القرآن، وأقم على أنَّها مُخالِفَةٌ لِلحَقِّ دليلاً يقرُّه المنطق، ويتقبله العقل.
يقول كاتب الرسالة: "إن المشركين كانوا يوجهون إلى النبي أسئلة، وإن الإجابة عنها ليست تاريخية ولا واقعة".
ونحن لا ندري من أين عرف كاتب الرسالة أن إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أسئلة المشركين لم تكن تاريخية ولا واقعة! فقد يهمل التاريخ أحداثًا، فلا يدل عليها صراحة ولا رمزًا، ولكنه لا يستطيع أن يأتي إلى أحدث أخبر عنها القرآن على وجه خاص، ويحكم عليها بأنها غير واقعة حكمًا يدخل إليه من باب الروية والإنصاف.
قال كاتب الرسالة:
"والقرآن يقرِّرُ أنَّ الجِنَّ تعلَمُ بعضَ الشيءِ، ثُمَّ لمَّا تقدَّم الزمن قرَّر القرآنُ أنَّهم لا يعلمون شيئًا (ص 29)، والمُفَسِّرُون مُخطِئُونَ حين يأخذون الأمر مأخَذَ الجد" (ص 30).
لم يقرر القرآن أن الجن لا يعلمون شيئًا، وإنما قال في قصة وفاة سليمان - عليه السلام -: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[5].
فالآية إنما نفت عن الجن علم الغيب، وهو ما يحصل للعالِم لذاته، ومن هنا كان مختصًّا بالخالق جل شأنه، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}[6]، فدلت الآية على أن علم الغيب خاص به تعالى، وأما غيره فلا يعلم الأشياء الغائبة عنه لذاته، وإنما يعلم منها ما يعلمه الله، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[7]، ومن هنا نفهم كيف ينفي النبي - عليه الصلاة والسلام - عن نفسه علم الغيب، مع أن الله تعالى قد أظهره على أشياء كثيرة كانت غائبة عنه، فقال: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، فنفي علم الغيب عن الجن لا ينافي أنهم يعلمون بعض الأشياء بطريق من طرق العلم الخفية.
فكاتب الرسالة مخطئ في فهمه أنَّ بين الآية التي تثبت للجن العلم ببعض الشيء، والآية التي تنفي عنها علم الغيب - تناقضًا.
قال كاتب الرسالة:
"الأنبياء أبطال وُلِدُوا في البيئة، وتأدَّبوا بآدابِها، وخالطوا الأهل والعشيرة وقلَّدوهم في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، ودانوا بما تَدين به من رأي، وعبدوا ما يعبد من إله" (ص27).
أجْمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، ومِمَّن حكى الإجماع على هذا الإمام عضد الدين في كتاب "المواقف"، والقاضي عياض في كتاب "الشفاء".
ولكن كاتب الرسالة يقول: إنَّهم قلَّدوا الأهل والعشيرة في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة، وعبدوا ما يعبد من إله.
وإنما يقول هذا، ويخرج عن إجماع المسلمين مَنِ استطاع أن يملأ يده من روايات تاريخية صحيحة، أو استطاع أن يُقيم دليلاً نظريًّا يسَعُه المنطق السليم، وليس بيد الكاتب نقل مقبول، ولا دليل معقول، وإنَّما هي دعوى عارية من كل شاهد، فلندع بسط الحديث عنها حتى نعرف الشبهة التي دفعتِ الكاتب إليها، حتَّى عبَّر عنها بجمل يؤكد بعضها بعضًا، وأسرف في تسويتهم بالمشركين، إلى أنْ قال لك: "وقلَّدوهم في كل ما يقال ويفعل"!
قال كاتب الرسالة:
"تصوير أخلاق الأمم كبني إسرائيل ليس بضروري أن يكون واقعًا؛ بل يصح أن يكون تصويرًا فنيًّا يُلاحظ الواقع النفسي أكثر من صدق القضايا... إلخ" (ص 75).
القرآن وحي سماوي، فإذا وصف أخلاق أمم كبني إسرائيل دلَّ بالضرورة على أنَّ وصفهم بتلك الأخلاق واقعي، ومنِ ادَّعى أن القرآن غير صادق فيما وصف، فليأتِ بآية وصفت بعض الأمم بأخلاق، ودلَّتِ الرواية أوِ الدراية على أن هذا الوصف غير مطابق للواقع.
قال كاتب الرسالة:
"القصة هي العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطلٍ لا وجودَ له، أو لبطلٍ له وجود، ولكن الحوادث التي ألَمَّت به لم تقع أصلاً، أو وقعت ولكنها نظمت على أساس فني، إذ قدم بعضها وأخر بعضها، أو حذف بعضها وأضيف إلى الباقي بعض آخر، أو بولغ في تصويرها إلى حد يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون حقيقيَّة إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخيالية، وهذا قصدنا في هذا البحث من الدراسة القرآنية" (ص 81).
هذا الذي يقوله الكاتب إنَّما ينطبق على القصص التي يقصد من تصنيفها إظهار البراعة في صناعة الإنشاء، أو في إجالة الخيال، أو بعث الارتياح والمتعة في نفوس القارئين؛ مثل مقامات بديع الزمان، أو مقامات الحريري، أو القصص التي تنشر اليوم في بعض الصحف السائرة، أما قصص القرآن فهي من كلام رب العزة، أوحى به إلى الرسول الأكرم؛ ليكون مأخذ عبرة، أو موضع قدوة، أو مَجلاة حكمة، وإيمان الناس بأنه صادر من ذلك المقام الأسنى يجعل له في قلوبهم مكانة محفوفة بالإجلال، ويمنعهم من أن يدرسوه كما تدرس تلك القصص الصادرة من نفوس بشرية تجعل أمامها أهدافًا خاصَّة، ثُمَّ لا تبالي أن تستمد ما تقوله من خيال غير صادق، أو تخرج من جِدٍّ إلى هزل، وتضع بجانب الحق باطلاً.
قال كاتب الرسالة:
"أخطأ الأقدمون في عد القصص تاريخًا" (ص 83).
لم يُخطئِ المتقدِّمون ولا المتأخِّرون في عدِّ القصص تاريخًا؛ بل هم على بينة من أمرهم، إذ يعدون القرآن أصحَّ مصدر لِما يقص من شؤون الأمم الغابرة، والأمم التي كانت تعيش وقت نزوله؛ ذلك أنَّ الدَّليل القائم على أنَّ القرآن وحْيٌ إلَهي هو الدَّليل الذي يشهد بأنَّ قَصَصَه تاريخ حقّ، لازم للإيمان بأنَّهُ وحي سماوي، ومن يَزْعُم أنَّهُ يوجد هذا الإيمان بدون ذلك الاعتقاد فهو كمن يزعم أن الشمس طالعة والنهار غير موجود.
قال كاتب الرسالة:
"منهجه (أي القرآن) هو معالجة القصة من حيث هي أدب، ويعني بذلك خلق الصور والابتكار والاختراع (ص84)؛ ولذلك لا مانع من اختلاف تصور الشخصية الواحدة في القرآن" (ص 85).
لم يعالج القرآنُ القِصَّة من حيث هي أدب، وإنَّما يوردها من حيث إنه مطلع حكمة، ومأخذ عبرة، ومرآة حقيقة، وحيث كان لبلاغة القول بعد حكمة المعنى وقوة الحجة، أثر زائد في توجيه النفوس إلى الصراط السوي، أنزل الله القرآن كله في أفصح الألفاظ، وأبدع الأساليب، حتى بلغ بحسن بيانه أنَّه كان المعجزة الخالدة.
وأشار الأستاذ أحمد أمين في تقريره إلى أن كاتب الرسالة يسمي القصة في القرآن أسطورة، فقال عازيًا إلى تلك الرسالة: "وجود القصة الأسطورية في القرآن" (ص 89)، ثم اطَّلعنا على مقال لكاتب الرسالة نشره في مجلة "الرسالة"، يقول فيه: "وأرجو أن لا يزعجنا هذا اللفظ (أسطورة)، ونقع في أخطاء وقع فيها غيرُنا حين ظنَّ أنَّ معنى الأسطورة الكذب والمين، أو الخرافات والأوهام، فذلك ما لم يقصد إليه القرآن الكريم"، وقال: "ليستِ الأسطورة في حس القرآن الكريم إلا ما سطره الأقدمون من أخبارهم وأقاصيصهم، بذلك تنطق آياته، وإلى ذلك فطِنَ المفسرون"، ثم نقل عن الطبري تفسيره للأسطورة بِما: "سطرَهُ الأوَّلون وكتبوه من أخبار الأمم"، ونقل عن "الكشاف" أنَّه فسَّرها: "بما سطره المتقدمون من نحو الحديث عن رستم، واسفنديار"، ثم نقل عن "المنار" لل*** رشيد رضا أنَّه فسر الأساطير في قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]: "بقصص الأولين وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتِها، وما هي بوحي من الله".