الرعاية
21 - 12 - 2010, 09:26 AM
أقول "لا" عندما أظن أنها الرد الصحيح، وأقول "نعم" بإرادة لا تنقصها القناعة ولا تفرضها الظروف أو الإحساس بمركب النقص
بحكم تجربتي وقراءتي لكتابات كثير من المتخصصين واطلاعي على تجارب آخرين عرفت أن تبعات الإعاقة، سواء الاجتماعية أو الصحية ـ والعلاقة واردة هنا ـ تتباين من شخص لآخر حسب خلفية المعوق الدينية والاجتماعية ومستواه العلمي والثقافي، فضلاً عن درجة وعيه بإعاقته. وظني أن من يملك بعض هذه المقومات يستطيع وحده مواجهة تحديات الإعاقة والمعوقات التي تفرضها.
فبالانسجام مع الذات والثقة بالنفس والاعتزاز بها، يستطيع المرء تجاوز تحديات الإعاقة من خلال معالجتها بعقلانية بعيدا عن أية ردود انفعالية، و"فهم" ردود الأفعال السلبية على أساس خلفيتها الاجتماعية ومن ثم استيعابها.. خاصة إذا صدرت من شخص لم يحظ بمستوى من الوعي والثقافة.
وفي هذا الصدد يحضرني موقفا آخر تطلب مني تحديد رد فعل فوري. فقد كنت بصحبة صديق نجلس في مقهى بأحد المراكز التجارية. وجاءت فتاة بارعة الجمال وجلست على الطاولة المقابلة لي. وكان من الطبيعي أن يقف نظري عليها حتى وان لم أشأ.
ذلك الموقف دعاني إلى التفكير: هل انظر إليها كما ينظر أي رجل لامرأة وقع بصره عليها. وإذا افترضنا أنها من جنس الغواني اللاتي يصدق قول الشاعر فيهن "… يغرهن الثناء" كيف ستستقبل نظراتي! وقلت لنفسي "لا يهمني كثيرا ماذا ستفكر هي: استصغرت نظرتي لها.. استهجنتها، لا يهم. فكل ما يعنيني الآن هو آن انظر إليها كما ينظر أي رجل لأي امرأة.. وسوى ذلك لا يعنيني بشيء!
ويشكل شعوري بذاتي أهمية بالغة في صياغة أسلوب علاقتي بالناس. وأحاول آن اسحب تأثير ذلك على مظهري الخارجي، طريقة كلامي، وكيفية تصرفي في حياتي اليومية. هذا الشعور بدأ بعد سنوات قليلة من الإصابة، وجاء عن قناعة أنني شخص جدير بالاهتمام! بالتأكيد لي هفواتي وأخطائي وسلبياتي، لكني أيضا ـ ودون تواضع لا مكان له ـ املك خصالاً يفتقرها كثيرون.
هذا الإيمان بالذات ـ وليس الغرور بها لأني لا املك ما يدعو للغرور ـ اخذ يكبر بمرور الوقت، وبدأت اشعر أن ثقتي بنفسي فاقت ـ حتى ـ تلك التي كانت قبل الحادث.
لماذا حصل هذا؟ لا ادري! وهذا ليس مجال أستطيع الإفتاء فيه، لكن أخذا بالمثل الذي يقول "اسأل مجرب ولا تسأل طبيب"، قد "ينط" لي قارئي ويقول "ايش معنى هذه؟" أو بالفصحى.. لماذا توقفت عن الإفتاء هنا وأنت مارسته منذ السطر الأول في هذا النص؟". وهو على حق!
وأقول أن كل واحد منا يختلف عن الآخر: يتفرد بخصائص وخصال.. إيجابيات وسلبيات، وهي ليست سوى محصلة تجارب عديدة تداخلت وتفاعلت لتشكل شخصية "الفرد". وليس أدل على ذلك من كلمة الفرد نفسها التي تربط بين الشخص وتميزه، فالفرد في اللغة تعني الشخص الذي لا نظير له.. ليس لتفوقه وإنما لاختلافه. ويأتي صوت القارئ ذاته ليقول "وفسر الماء بعد الجهد بالماء".
وأقول أن أحد الأسباب التي ولدت لدي هذه الثقة هي أنني استطعت خلال سنوات إعاقتي الطويلة أن أعيش مستقلا ومعتمدا على نفسي.. لم اطلب قرشا من أحد، ولم ير أحد دمعتي ولم تسمع أذن أنتي! وبقدر جدارتي في توفير مقومات نجاحها، أصبحت الحياة حينئذ ـ بالنسبة لي ـ جديرة بان تعاش وان تكالبت عليّ الصعاب والمعوقات. وهنا تلعب محصلة تجارب الفرد الحياتية والرؤية الشخصية للأمور دورا في صياغة موقفه وتحديد الاتجاه الذي يريد آن يسلكه.
وأنا هنا لا أتحدث عن روتين الحياة اليومية التي اعتمد فيها على الآخرين في إنجاز ما لا يقل عن 70%منها ـ سوى العمل الذي أؤديه بالكامل وعلى اكمل وجه ممكن ولله الحمد ـ وإنما اقصد استقلال القرار فيما يعني كل جوانب حياتي. أقول "لا" عندما أظن أنها الرد الصحيح، وأقول "نعم" بإرادة لا تنقصها القناعة ولا تفرضها الظروف أو الإحساس بمركب النقص.
وقبل أن يأتي صوت هذا القارئ أو ـ ربما ـ صوت من داخلي يسأل مستهجنا: هل تظن انك، إذ ذاك، تسطر بطولة أو ترسم لمن هم في مثل حالتك نموذجا؟ وارد: لا! وان كنت هنا اشعر أن الغرور يلامس كلماتي. ففي الأولى ـ أي الاستقلال والاعتماد على النفس ـ من حقي آن افتخر بنفسي لأنه رغم شدة إعاقتي (شلل رباعي كامل)، واصلت العمل واجتهدت، قدر استطاعتي، طوال هذه السنين في آن لا يكون وجودي في الوظيفة شفقة أو إحسانا ـ وان كان امتناني لعدد من الناس الذين آمنوا بي وأتاحوا لي الفرصة لإثبات ذاتي وأمارس إنسانيتي لا تفي الكلمات حقها. أما الدمعة والأنة، فأنا لست بهما بطلا ولا اطلب بطولة، وإنما أنا حريص على أن لا افتح للإعاقة ثقبا تبث منه السم في روحي مثلما قتلت به جسدي. ولولا هذا العناد لمزقت معاولها نفسي أشلاء!
بحكم تجربتي وقراءتي لكتابات كثير من المتخصصين واطلاعي على تجارب آخرين عرفت أن تبعات الإعاقة، سواء الاجتماعية أو الصحية ـ والعلاقة واردة هنا ـ تتباين من شخص لآخر حسب خلفية المعوق الدينية والاجتماعية ومستواه العلمي والثقافي، فضلاً عن درجة وعيه بإعاقته. وظني أن من يملك بعض هذه المقومات يستطيع وحده مواجهة تحديات الإعاقة والمعوقات التي تفرضها.
فبالانسجام مع الذات والثقة بالنفس والاعتزاز بها، يستطيع المرء تجاوز تحديات الإعاقة من خلال معالجتها بعقلانية بعيدا عن أية ردود انفعالية، و"فهم" ردود الأفعال السلبية على أساس خلفيتها الاجتماعية ومن ثم استيعابها.. خاصة إذا صدرت من شخص لم يحظ بمستوى من الوعي والثقافة.
وفي هذا الصدد يحضرني موقفا آخر تطلب مني تحديد رد فعل فوري. فقد كنت بصحبة صديق نجلس في مقهى بأحد المراكز التجارية. وجاءت فتاة بارعة الجمال وجلست على الطاولة المقابلة لي. وكان من الطبيعي أن يقف نظري عليها حتى وان لم أشأ.
ذلك الموقف دعاني إلى التفكير: هل انظر إليها كما ينظر أي رجل لامرأة وقع بصره عليها. وإذا افترضنا أنها من جنس الغواني اللاتي يصدق قول الشاعر فيهن "… يغرهن الثناء" كيف ستستقبل نظراتي! وقلت لنفسي "لا يهمني كثيرا ماذا ستفكر هي: استصغرت نظرتي لها.. استهجنتها، لا يهم. فكل ما يعنيني الآن هو آن انظر إليها كما ينظر أي رجل لأي امرأة.. وسوى ذلك لا يعنيني بشيء!
ويشكل شعوري بذاتي أهمية بالغة في صياغة أسلوب علاقتي بالناس. وأحاول آن اسحب تأثير ذلك على مظهري الخارجي، طريقة كلامي، وكيفية تصرفي في حياتي اليومية. هذا الشعور بدأ بعد سنوات قليلة من الإصابة، وجاء عن قناعة أنني شخص جدير بالاهتمام! بالتأكيد لي هفواتي وأخطائي وسلبياتي، لكني أيضا ـ ودون تواضع لا مكان له ـ املك خصالاً يفتقرها كثيرون.
هذا الإيمان بالذات ـ وليس الغرور بها لأني لا املك ما يدعو للغرور ـ اخذ يكبر بمرور الوقت، وبدأت اشعر أن ثقتي بنفسي فاقت ـ حتى ـ تلك التي كانت قبل الحادث.
لماذا حصل هذا؟ لا ادري! وهذا ليس مجال أستطيع الإفتاء فيه، لكن أخذا بالمثل الذي يقول "اسأل مجرب ولا تسأل طبيب"، قد "ينط" لي قارئي ويقول "ايش معنى هذه؟" أو بالفصحى.. لماذا توقفت عن الإفتاء هنا وأنت مارسته منذ السطر الأول في هذا النص؟". وهو على حق!
وأقول أن كل واحد منا يختلف عن الآخر: يتفرد بخصائص وخصال.. إيجابيات وسلبيات، وهي ليست سوى محصلة تجارب عديدة تداخلت وتفاعلت لتشكل شخصية "الفرد". وليس أدل على ذلك من كلمة الفرد نفسها التي تربط بين الشخص وتميزه، فالفرد في اللغة تعني الشخص الذي لا نظير له.. ليس لتفوقه وإنما لاختلافه. ويأتي صوت القارئ ذاته ليقول "وفسر الماء بعد الجهد بالماء".
وأقول أن أحد الأسباب التي ولدت لدي هذه الثقة هي أنني استطعت خلال سنوات إعاقتي الطويلة أن أعيش مستقلا ومعتمدا على نفسي.. لم اطلب قرشا من أحد، ولم ير أحد دمعتي ولم تسمع أذن أنتي! وبقدر جدارتي في توفير مقومات نجاحها، أصبحت الحياة حينئذ ـ بالنسبة لي ـ جديرة بان تعاش وان تكالبت عليّ الصعاب والمعوقات. وهنا تلعب محصلة تجارب الفرد الحياتية والرؤية الشخصية للأمور دورا في صياغة موقفه وتحديد الاتجاه الذي يريد آن يسلكه.
وأنا هنا لا أتحدث عن روتين الحياة اليومية التي اعتمد فيها على الآخرين في إنجاز ما لا يقل عن 70%منها ـ سوى العمل الذي أؤديه بالكامل وعلى اكمل وجه ممكن ولله الحمد ـ وإنما اقصد استقلال القرار فيما يعني كل جوانب حياتي. أقول "لا" عندما أظن أنها الرد الصحيح، وأقول "نعم" بإرادة لا تنقصها القناعة ولا تفرضها الظروف أو الإحساس بمركب النقص.
وقبل أن يأتي صوت هذا القارئ أو ـ ربما ـ صوت من داخلي يسأل مستهجنا: هل تظن انك، إذ ذاك، تسطر بطولة أو ترسم لمن هم في مثل حالتك نموذجا؟ وارد: لا! وان كنت هنا اشعر أن الغرور يلامس كلماتي. ففي الأولى ـ أي الاستقلال والاعتماد على النفس ـ من حقي آن افتخر بنفسي لأنه رغم شدة إعاقتي (شلل رباعي كامل)، واصلت العمل واجتهدت، قدر استطاعتي، طوال هذه السنين في آن لا يكون وجودي في الوظيفة شفقة أو إحسانا ـ وان كان امتناني لعدد من الناس الذين آمنوا بي وأتاحوا لي الفرصة لإثبات ذاتي وأمارس إنسانيتي لا تفي الكلمات حقها. أما الدمعة والأنة، فأنا لست بهما بطلا ولا اطلب بطولة، وإنما أنا حريص على أن لا افتح للإعاقة ثقبا تبث منه السم في روحي مثلما قتلت به جسدي. ولولا هذا العناد لمزقت معاولها نفسي أشلاء!