ريموت
19 - 4 - 2005, 08:59 PM
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرِّق الجماعات
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل: "أكثروا من ذكر هادم1 اللذات"، الموت، مفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأ**** والزوجات، وقاطع الأعمال الصالحات، المقرب إلى العرصات2، المجرع للحسرات، الناقل من البيوت والقصور إلى القبور الموحشات، المفجع للأهل والقرابات، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم في الخيرات.
من العجيب الغريب أن كثيراً من الناس لا يذكرون الموت ولا يحبون أن يذكَّروا به، ومنهم من يتشاءم بمن يذكره بذلك، وينبهه لما هنالك، كأنما كتب الموت على غيرهم، ونسوا أوتناسوا أن الأحياء جميعاً هم أبناء الموتى، وذراري الهلكى، أين الآباء والأجداد؟ بل أين بعض الأبناء، والا****، والأقارب، والجيران، والأحفاد؟
ما منا من أحد إلا ومعه أصل شهادة وفاته، فقد نعى الله إلينا رسولنا، ونعانا إلى أنفسنا، فقال: "إنك ميت وإنهم ميتون"، وما يستخرج من شهادة بعد الوفاة إنما هي صورة طبق الأصل لما سجله الملائكة للعبد وهو في رحم أمه، ورحم الله ابن الجوزي حين قال في قول الله عز وجل: "كل من عليها فان": (هذا والله توقيع بخراب الدنيا)، إي وربي، إنه توقيع وأي توقيع! ليس فيه تزوير، لا يقبل المراجعة، ولا تجدي فيه الشفاعة.
فالموت لا يميز بين صغير وكبير، ولا صحيح وسقيم، ولا غني وفقير، ولا أمير ووزير وغفير، ولا عالم ولا جاهل،ولا بر ولا فاجر: "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون".
رحم الله العلامة الشهير، والشاعر المجود القدير، والواعظ الناصح البصير، أبو إسحاق الألبيري3 حين قال مذكراً ابنه أبا بكر بأن الموت لا يفرق بين صغير وكبير، في قصيدته الشهيرة التي حث فيها ابنه على طلب العلم والاشتغال به، التي مطلعها:
تفتُّ فيـؤادك الأيـامُ فتـاً وتنحتُ جسمكَ الساعاتُ نحتا
وتدعوك المنونُ دعاءَ صدق ألا يا صاح أنت أريــدُ أنتا
أراك تحب عِرْساً ذات خدر أبتَّ طلاقها الأكيــاسُ بتا
تنام الدهر ويحك في غطيط بها حتى إذا مت انتبهـــا
فكم ذا أنت مخـدوع وحتى متى لا ترعوي عنهـا وحتى
أبابكـر دعـوتك لو أجبتَ إلى ما فيه حظك لوعقلنــا
إلى علم تكـون به إمامـاً مطاعاً إن نهيتَ و إن أمرتـا
إلى أن قال:
ولا تقل الصبـا فيه امتهـال وفكـر كم صغيـر قد دفنتـا
وقال مذكراً نفسه على لسان ابنه:
تقطعني على التفريط لومـاً وبالتفريط دهـرك قد قطعتا
وفي صغري تخوفني المنايا وما تدري بحالك حيث شبتا
وكنتَ مع الصبا أهدى سبيلاً فمالك بعد شيبك قد نكثتـا
ونـاداك الكتـاب فلم تجبه ونبهك المشيب فما انتبهتا
ويقبح بالفتى فعـل التصابي وأقبح منه *** قد تفتــا
ونفسك ذم لا تذمم سواهـا لعيب فهي أجدر من ذممتا
وأنت أحـق بالتنفيـذ مني و لو كنت اللبيب لما نطقتا
ولو بكت الدُّما عيناك خوفاً لذنبك لم أقل لك قد أمنتـا
ومن لك بالأمان وأنت عبد أمرتَ فما ائتمرت ولا أطعتا4
الأدواء العصيبة والأمراض المهلكة التي تحول بيننا وبين تذكر الموت والاستعداد له هي أمراض القلوب المعنوية: حب الدنيا، وطول الأمل، والغفلة، وكراهية الموت، وذلك لأن كثيراً منا إيمانه بالموت إيمان نظري شبيه بالشك، كما قال الخليفة الراشد والعبد الصالح عمر بن عبد العزيز: (لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق ولكن لا يعملون له)، أوكما قال.
إذا أردت الخـلاص من هذه الأدواء المضلـة المذلـة فعليك بوصيـة رسـولك صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أوعابر سبيل".
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".5
قال النووي رحمه الله: (قالوا في شرح هذا الحديث، معناه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وبالله التوفيق).6
هذا هو الداء المانع من ذكر الموت والاستعداد له: حب الدنيا، وطول الأمل، ينتج منه كراهية الموت، وهذا هو الدواء: التقلل من الدنيا، والعزوف عنها، المؤدي إلى الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحارث بن مالك الأنصاري عندما سأله: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحتُ مؤمناً حقاً؛ فقال له: لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأقمتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها؛ قال له: يا حارث، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم".
إليك أخي الكريم أنموذجاً واحداً من سلف هذه الأمة، ممن عرفوا قدر الدنيا فعزفوا عنها، وقد جاءتهم راغمة، وأدركوا مصيبة الموت، ومآل المقبورين، وحال الهالكين، فاستعدوا لذلك، وشمروا لما هنالك، ذلكم هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله، لعل الله ينفع بها، فالذكرى تنفع المؤمنين.
روى ابن الجـوزي رحمه الله في سيرة عمر بن عبد العزيز7 له عن أبي فروة قال: (خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني أمية، فلما صلى عليها ودفنت قال للناس: قوموا؛ ثم توارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد أبطأت فما الذي حبسك؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني أبي، فسلمتُ فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأحبة؟ قلت: ما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت العينان؟ قلت: وما لقيت العينان؟ قال: قدعت المقلتان، وأكلت الحدقتان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأبدان؟ قلت: وما لقيت الأبدان؟ قال: قطعت الكفَّان من الرُّسغين، وقطعت الرسغان من الذراعين، وقطعت الذراعان من المرفقين، وقطعت الكتفان من الجنبين، وقطعت الجنبان من الصلب، وقطع الصلب من الوركين، وقطعت الوركان من الفخذين، والفخذان من الركبتين، وقطعت الركبتان من الساقين، وقطعت الساقان من القدمين؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، عليك بأكفان لا تبلى؛ قلت: وما الأكفان التي لا تبلى؟ قال: اتقاء الله والعمل بطاعته؛ ثم بكى عمر، وقال: ألا وإن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها؟ أقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغروا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم والله كانوا في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعها، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، مر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون، وعن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟ امحت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، وقبحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، فأين حجالهم وقبابهم؟ وأين خدمهم، وعبيدهم، وجمعهم، ومكنوزهم؟ والله ما زادوهم فراشاً، ولا وضعوا هنالك متكأ، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات؟ أليس عليهم الليل والنهار سواء؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة، فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبّت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، وصاروا بعد السعة في المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناظر فيه، المتنعم بلذته.
يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا؟ هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمرك الحاضر ينعه؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وأين بخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، ويتقلب في سكرات الموت وغمرته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاءه من الأجل ما لا يمتنع منه، هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر راجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى؟ يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى؟ يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، يا ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا؟ وما يأتيني به من رسالة ربي.
ثم تمثل بهذه الأبيات:
تسرُّ بما يفني وتشغل بالصبى كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور لهو و غفلة و ليلك نوم والـردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبـه كذلك في الدنيا تعيش البهائـم
ثم انصرف، فما بقي بعد ذلك إلا جمعة)، أي أسبوعاً.
اللهم إنا نسألك أن تقيل العثرات، وتغفر الزلات، وتبدلها حسنات، وتستعملنا في الطاعات، وتشغلنا بما يهمنا في الحياة وبعد الممات، وأن تطيبنا للممات، وأن تستر الخطيئات، وأن تغفر للآبـاء والأمهـات، وأن تصلح الأ**** والذريات، إنك ولي ذلك والقادر عليه، لا رب سواك، ولا إله غيرك.
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل: "أكثروا من ذكر هادم1 اللذات"، الموت، مفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأ**** والزوجات، وقاطع الأعمال الصالحات، المقرب إلى العرصات2، المجرع للحسرات، الناقل من البيوت والقصور إلى القبور الموحشات، المفجع للأهل والقرابات، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم في الخيرات.
من العجيب الغريب أن كثيراً من الناس لا يذكرون الموت ولا يحبون أن يذكَّروا به، ومنهم من يتشاءم بمن يذكره بذلك، وينبهه لما هنالك، كأنما كتب الموت على غيرهم، ونسوا أوتناسوا أن الأحياء جميعاً هم أبناء الموتى، وذراري الهلكى، أين الآباء والأجداد؟ بل أين بعض الأبناء، والا****، والأقارب، والجيران، والأحفاد؟
ما منا من أحد إلا ومعه أصل شهادة وفاته، فقد نعى الله إلينا رسولنا، ونعانا إلى أنفسنا، فقال: "إنك ميت وإنهم ميتون"، وما يستخرج من شهادة بعد الوفاة إنما هي صورة طبق الأصل لما سجله الملائكة للعبد وهو في رحم أمه، ورحم الله ابن الجوزي حين قال في قول الله عز وجل: "كل من عليها فان": (هذا والله توقيع بخراب الدنيا)، إي وربي، إنه توقيع وأي توقيع! ليس فيه تزوير، لا يقبل المراجعة، ولا تجدي فيه الشفاعة.
فالموت لا يميز بين صغير وكبير، ولا صحيح وسقيم، ولا غني وفقير، ولا أمير ووزير وغفير، ولا عالم ولا جاهل،ولا بر ولا فاجر: "إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون".
رحم الله العلامة الشهير، والشاعر المجود القدير، والواعظ الناصح البصير، أبو إسحاق الألبيري3 حين قال مذكراً ابنه أبا بكر بأن الموت لا يفرق بين صغير وكبير، في قصيدته الشهيرة التي حث فيها ابنه على طلب العلم والاشتغال به، التي مطلعها:
تفتُّ فيـؤادك الأيـامُ فتـاً وتنحتُ جسمكَ الساعاتُ نحتا
وتدعوك المنونُ دعاءَ صدق ألا يا صاح أنت أريــدُ أنتا
أراك تحب عِرْساً ذات خدر أبتَّ طلاقها الأكيــاسُ بتا
تنام الدهر ويحك في غطيط بها حتى إذا مت انتبهـــا
فكم ذا أنت مخـدوع وحتى متى لا ترعوي عنهـا وحتى
أبابكـر دعـوتك لو أجبتَ إلى ما فيه حظك لوعقلنــا
إلى علم تكـون به إمامـاً مطاعاً إن نهيتَ و إن أمرتـا
إلى أن قال:
ولا تقل الصبـا فيه امتهـال وفكـر كم صغيـر قد دفنتـا
وقال مذكراً نفسه على لسان ابنه:
تقطعني على التفريط لومـاً وبالتفريط دهـرك قد قطعتا
وفي صغري تخوفني المنايا وما تدري بحالك حيث شبتا
وكنتَ مع الصبا أهدى سبيلاً فمالك بعد شيبك قد نكثتـا
ونـاداك الكتـاب فلم تجبه ونبهك المشيب فما انتبهتا
ويقبح بالفتى فعـل التصابي وأقبح منه *** قد تفتــا
ونفسك ذم لا تذمم سواهـا لعيب فهي أجدر من ذممتا
وأنت أحـق بالتنفيـذ مني و لو كنت اللبيب لما نطقتا
ولو بكت الدُّما عيناك خوفاً لذنبك لم أقل لك قد أمنتـا
ومن لك بالأمان وأنت عبد أمرتَ فما ائتمرت ولا أطعتا4
الأدواء العصيبة والأمراض المهلكة التي تحول بيننا وبين تذكر الموت والاستعداد له هي أمراض القلوب المعنوية: حب الدنيا، وطول الأمل، والغفلة، وكراهية الموت، وذلك لأن كثيراً منا إيمانه بالموت إيمان نظري شبيه بالشك، كما قال الخليفة الراشد والعبد الصالح عمر بن عبد العزيز: (لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق ولكن لا يعملون له)، أوكما قال.
إذا أردت الخـلاص من هذه الأدواء المضلـة المذلـة فعليك بوصيـة رسـولك صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أوعابر سبيل".
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".5
قال النووي رحمه الله: (قالوا في شرح هذا الحديث، معناه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وبالله التوفيق).6
هذا هو الداء المانع من ذكر الموت والاستعداد له: حب الدنيا، وطول الأمل، ينتج منه كراهية الموت، وهذا هو الدواء: التقلل من الدنيا، والعزوف عنها، المؤدي إلى الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحارث بن مالك الأنصاري عندما سأله: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحتُ مؤمناً حقاً؛ فقال له: لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأقمتُ ليلي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها؛ قال له: يا حارث، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم، عرفتَ فالزم".
إليك أخي الكريم أنموذجاً واحداً من سلف هذه الأمة، ممن عرفوا قدر الدنيا فعزفوا عنها، وقد جاءتهم راغمة، وأدركوا مصيبة الموت، ومآل المقبورين، وحال الهالكين، فاستعدوا لذلك، وشمروا لما هنالك، ذلكم هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله، لعل الله ينفع بها، فالذكرى تنفع المؤمنين.
روى ابن الجـوزي رحمه الله في سيرة عمر بن عبد العزيز7 له عن أبي فروة قال: (خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني أمية، فلما صلى عليها ودفنت قال للناس: قوموا؛ ثم توارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد أبطأت فما الذي حبسك؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني أبي، فسلمتُ فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأحبة؟ قلت: ما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت العينان؟ قلت: وما لقيت العينان؟ قال: قدعت المقلتان، وأكلت الحدقتان؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، ألا تسألني ما لقيت الأبدان؟ قلت: وما لقيت الأبدان؟ قال: قطعت الكفَّان من الرُّسغين، وقطعت الرسغان من الذراعين، وقطعت الذراعان من المرفقين، وقطعت الكتفان من الجنبين، وقطعت الجنبان من الصلب، وقطع الصلب من الوركين، وقطعت الوركان من الفخذين، والفخذان من الركبتين، وقطعت الركبتان من الساقين، وقطعت الساقان من القدمين؛ فلما ذهبت أقفي ناداني التراب، فقال: يا عمر، عليك بأكفان لا تبلى؛ قلت: وما الأكفان التي لا تبلى؟ قال: اتقاء الله والعمل بطاعته؛ ثم بكى عمر، وقال: ألا وإن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، فالمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها؟ أقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغروا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم والله كانوا في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعها، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، مر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون، وعن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟ امحت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، وقبحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، فأين حجالهم وقبابهم؟ وأين خدمهم، وعبيدهم، وجمعهم، ومكنوزهم؟ والله ما زادوهم فراشاً، ولا وضعوا هنالك متكأ، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات؟ أليس عليهم الليل والنهار سواء؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة، فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبّت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، وصاروا بعد السعة في المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناظر فيه، المتنعم بلذته.
يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا؟ هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمرك الحاضر ينعه؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وأين بخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، ويتقلب في سكرات الموت وغمرته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاءه من الأجل ما لا يمتنع منه، هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر راجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى؟ يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى؟ يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، يا ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا؟ وما يأتيني به من رسالة ربي.
ثم تمثل بهذه الأبيات:
تسرُّ بما يفني وتشغل بالصبى كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور لهو و غفلة و ليلك نوم والـردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبـه كذلك في الدنيا تعيش البهائـم
ثم انصرف، فما بقي بعد ذلك إلا جمعة)، أي أسبوعاً.
اللهم إنا نسألك أن تقيل العثرات، وتغفر الزلات، وتبدلها حسنات، وتستعملنا في الطاعات، وتشغلنا بما يهمنا في الحياة وبعد الممات، وأن تطيبنا للممات، وأن تستر الخطيئات، وأن تغفر للآبـاء والأمهـات، وأن تصلح الأ**** والذريات، إنك ولي ذلك والقادر عليه، لا رب سواك، ولا إله غيرك.