عائض الغامدي
28 - 4 - 2005, 11:33 PM
عن اللغة نتحدث
حمزة قبلان المزيني*
كتب الأستاذ سعيد الدوسري "الوطن": صفحة نقاشات العدد 1667 مداخلة بعنوان "حين يحرج الطالب مدرّسه بسؤال عن اللغة السماعية" أشار فيها إلى سؤال أحد طلابه له عن سبب ورود كلمة "المسلمون" مرفوعة بدلا عن "المسلمين" في جملة: "جاء المسلمون". وأشار إلى المشكلة التي وقع فيها حين لم يستطع إجابة سؤال طالبه الذكي إلا بالإجابة المعهودة: "هكذا قالت العرب". ثم إلى عدم اقتناع الطالب بإجابة أستاذه ومبادرته بسؤال أكثر إحراجا وهو: "إذا كانت اللغة سماعية فلماذا لا نكتب اللغة التي نسمعها في البيت والشارع، لأننا لم نسمع اللغة التي نتعلمها؟"
لذلك فزع الأستاذ سعيد، بطريقة ربما يريد بها الإيحاء بأن المفاهيم التي ألفناها عن اللغة ربما لا تكون صحيحة، إلى المتخصصين في "اللسانيات" لينجدوه بإجابة تصلح لإقناع مثل هذا الطالب الذكي الذي نحسده على وجوده بين طلابه. وكنت واحدا من الذين استنجد بهم الأستاذ سعيد.
وتثار مثل هذه الأسئلة دائما ولا يجاب عنها بإجابات مقنعة. وسأحاول هنا الإسهام بقدر ما أستطيع في جلاء بعض المشكلات التي تتصل بها.
ومن المؤكد أن الإجابات التقليدية لا تنفع لأنها مبنية على تصورات خاطئة عن اللغة بعامة وعما يسمى بـ "اللغة النموذجية"، وما يسمى بـ"اللغة العربية الفصحى" خاصة، وعن النحو وعن دراسة اللغة على وجه العموم.
أما الإجابة الأقرب إلى حقيقة الأشياء فهي تلك التي تستند إلى المنجزات العلمية التي حدثت في العقود الخمسة الماضية في دراسة اللغة.
فمن التصورات الخاطئة عن اللغة ما يشي به سؤال الطالب من أن هذه القواعد النحوية الصعبة مقصورة على اللغة العربية الفصحى. ويتبع من هذا أن اللغة العامية التي نتكلمها تخلو من القواعد وأنها تصدر عن سليقة لا نُعمل فيها أيةَ قاعدة وأن بإمكاننا أن نطمئن إلى معرفتنا بها.
أما الواقع فهو أن ما نسميه بـ"اللغة العامية" محكوم بـ"قواعد" لا تقل انضباطا واطرادا عن تلك التي نجدها في اللغة الفصحى. أما لماذا لا نشعر بأننا نستخدم تلك "القواعد" فهو أننا اكتسبنا "اللغة العامية" اكتسابا طبيعيا منذ الصغر مما جعل تلك "القواعد" تعمل بصورة آلية سريعة لا نشعر بها.
ومن هنا فلا مجال للقول بأننا لو كتبنا لغاتنا العاميات فإننا سنكون أفضل حالا؛ ذلك أننا سنسحب، حينئذ، تلك القواعد من مستوى اللاشعور وهو ما يجعلها آلية إلى مستوى الشعور وهو ما سيجعلها مادة للتعلم الواعي الذي سيلجئنا إلى تذكُّر تلك القواعد كلما أردنا أن نتكلم. وهذا ما سيرجعنا إلى المربَّع الأول: إذ إننا سنعاني من المشكلات نفسها التي كنا نعاني منها في مستوى ما يسمى بـ"اللغة العربية الفصحى".
ومن القضايا المهمة التي وَضحت في التنظير اللساني المتأثر بنظرية تشومسكي اللغوية أن ما نسميه بـ"اللغة العربية الفصحى"، مثله مثل "اللغات النموذجية" الأخرى لا حقيقة له. وأورد هنا ما يقوله تشومسكي عن هذا الأمر:
صحيح أنه كثيرا ما تُستخدم مصطلحاتٌ "مثل مصطلح "اللغة الإنجليزية" أو "اللغة اليابانية" في الدراسات العامة للغة، لكنَّ هذا (الاستخدام) مصحوب بفهْمٍ مؤداه أن هذا الاستخدام البديهي لها... ينبغي أن يُستغنى عنه حين نتوجه إلى الدراسة الفعلية للغة، والسلوك والتواصل.... ذلك أنَّ (هذا التصور البديهي للغة) يتضمن عناصرَ اجتماعية ـ سياسية، وتاريخية، وثقافية، ومعيارية ـ غائيَّة معقدة وغامضة. وربما تكون هذه العناصر مهمة لعلم اجتماعِ الانتماء identification داخلَ مختلف الجماعات الاجتماعية والسياسية ولدراسة بِنية السلطة، لكن الواضح أنها تَقع بعيدًا خارج متناول أي بحث مفيد عن طبيعة اللغة أو علم نفس مستعمليها.
و"يأخذ أغلبُ النقاش عن "اتِّباع القاعدة" قواعدَ الرياضيات أو قواعد المرور نموذجًا، أو تلك القواعد التي نجدها في كتب النحو التقليدي، أو أنواع أخرى مما يتصف بالمعيارية. وأحد الملامح الرئيسة في اتِّباع القاعدة، إذن، أنه يجب أن يكون الوقوع في الخطأ ممكنًا بمعنى الخروج على المعيار. وبغض النظر عن هدف هذا النقاش، فهو غير دقيق هنا. وقواعد اللغة ـ كمبادئ النحو الكُلِّي، أو تلك المبادئ التي تُوجِّه أحكامَ (المتكلم العادي)، مثلاً ـ ليست معيارية بهذا المعنى. إذ يمكن أن تَكون (هذه الأحكامُ) ومظاهرُ (السلوك اللغوي) الأخرى "خاطئة"، لعدد كبير من الأسباب؛ نحو: عدم الانتباه أو صعوبة التحليل.... كما (يستطيع المتكلم للغته) أن يقرِّر مخالفةَ قواعدِها، ربما لأسباب وجيهة، كإحداث أثرٍ أدبي، مثلا. ويمكن للأحكام والسلوك كذلك ألا تتوافق مع المعيار بطرق عدَّة: كالمعايير التي تَفرضها البنى التسلُّطيةُ المختلفة، والممارسات المشتركة عند جماعات لا حد لتنوعها ويمكن أن يرتبط الأفراد بها، إما اختيارًا أو بضغط خارجي،...إلخ".
ويقول تشومسكي أيضا: "وتمثِّل هذه الأفكار (أي أفكاره عن طبيعة اللغة) مفارقةً جذريًّة لتقليدٍ غنيٍّ استمر ألفين وخمسمائة سنة. فلا تُبيِّن هذه الأفكار، إنْ كانت صحيحة، أن اللغات متماثلةٌ، بإجراء حوسبي يكاد يكون واحدًا وتنوعٍ ضئيل مقصور على المعجم وحسب، بل تُبين كذلك عدمَ وجود قواعد أو تراكيب شبيهة بالقواعد والتراكيب بالمعنى التقليدي، التي نُقلت إلى النحو التوليدي المبكر: فليس هناك قواعد لتكوين جُملِ الصلة في اللغة الإنجليزية مثلا. فليست التراكيبُ التقليدية ـ كالمركَّب الفعلي، وجملة الصلة، والمبني للمجهول،...إلخ ـ إلا وسائلَ تصنيفية مصطنعة، أما خصائصُها فتَنتُج من تفاعل مبادئ أكثرَ عمومية.
و"مهما كان موضوع (البحث المعهود في دراسة اللغة) فهو يعتمد بصورة جوهريَّة على فكرة "اللغة العامة المشتركة" التي ظلت غامضة. فإذا كانت هذه الفكرة بصورتها في الخطاب العادي فهي غير مفيدة لأيّ شكل من أشكال التفسير التنظيري. فمن المسلمات منذ زمن بعيد في الدراسة الاختبارية للغة أنه ليس هناك شيء يمكن أن تعيِّنه كلمات كـ (اللغة) "الصينية"، أو "الألمانية"، أو ما هو أكثر تحديدًا منهما كذلك. ذلك أنَّ تحدُّثَ اللغة نفسِها يُشبه "السَّكنَ قريبًا مِنْ" أو "التشابه"؛ وهو ما يعني أنه ليس هناك مقولات يجب تثبيتها. وعدمُ توفير اللغةِ العادية وسيلةً للإحالة إلى اللغة التي تتكلمها حفيدتي مقبولٌ في الحياة العادية، أما البحث الاختباري فيتطلب تصورًا مختلفا. فملكتُها اللغوية، في البحث الاختباري، في حالةٍ ما وهي الحالة التي تُحدِّد "لغتَها" (أو ربما تَكون "هي" لغتها). وتؤسَّس الجماعاتُ والثقافات وأنماط الاحتكام في حياة البشر بطرق مختلفة كثيرة جدّا، مع عدم وجود علاقة خاصة لشيء من ذلك بما نسميه "لغات" في الخطاب غير المتخصص. وليس هناك إجابة مفيدة عن السؤال عن إن كان يجب على "بيرت" أن يحيل إلى الألم في فخذه على أنه التهاب مفاصل؛ أو إن كان يجب عليه استخدام كلمة disinterested "غير مبال" لتعني unbiased "غير متحيِّز"، كما يقول القاموس، أو uninterested "غير مهتمَّ"، كما يعتقد متكلمو [الإنجليزية الأمريكية] جميعهم تقريبًا؛ أو إن كان يجب عليه أن يَنطق الكلمات بالطريقة التي تُنطق بها في بوسطن أو لندن".
ويقول كذلك: "وهذه اللغات (بمعناها في الاستخدام العام) "مصطنعاتٌ ثقافية" غالبًا بمعنى أكثر تحديدا: فهي "لغات نموذجية" مصطنعة جزئيًّا وربما لا يَتحدثها إلا عدد قليل من المتكلمين ويمكن أن تُخالِف مبادئ اللغة كذلك. وتُحدَّد مصطلحاتٌ كـ "المعايير" و"الاستخدام الصحيح" في ثقافات عديدة، في ضوء مثل هذه الظواهر، وهي أمور ليس لها كثير من الأهمية في "الدراسات الثقافية"، وإن لم يكن لذلك من سبب إلا أنها واضحة جدّا. وهو ما يجعلها لا تهتم بدراسة جهود المجمع اللغوي الفرنسي إلا قليلاً، مثلا".
ومقتضى هذه الأفكار العلمية التي وردت بصورتها الأخيرة في كتاب تشومسكي ("آفاق جديدة في دراسة اللغة والذهن"، ترجمة حمزة المزيني، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2**5) أن علينا أن نقارب أسئلة اللغة بغير الطرق المعهودة التي ألفناها.
لهذا أتوجه للأستاذ سعيد الدوسري طالبا العذر منه إن كنت لا أستطيع في مقالات بحجم ما تسمح به الصحيفة اليومية تناول مثل هذه القضايا المعقدة. لكن هذا يملي علينا، كما قدمت، أن نراجع مراجعة جذرية تلك الأفكار التقليدية التي تتصل باللغة عموما وباللغة العربية الفصحى خصوصا وأن نقاربها مقاربة علمية بعيدة عن المعالجات السطحية التي تزخر بها الدراسات اللغوية والنحوية المألوفة.
إن مشكلتنا تكمن في هيمنة التوجهات التقليدية في دراسة اللغة وعدم الاهتمام في جامعاتنا بالدراسات اللسانية العلمية التي وصلت الآن حدا بعيدا من النضج. كما أنها غائبة، بل ربما تقابل بعداء مبدئي لا مثيل له، في أقسام اللغة العربية على وجه أخص.
هنيئا لك ـ أخي سعيد ـ بطالبك النجيب، وأرجو ألا يقع فريسة لنحوي تقليدي يئد هذا العقل المتسائل الذي نحتاج أن يكون طلابنا جميعا على مثاله.
حمزة قبلان المزيني*
كتب الأستاذ سعيد الدوسري "الوطن": صفحة نقاشات العدد 1667 مداخلة بعنوان "حين يحرج الطالب مدرّسه بسؤال عن اللغة السماعية" أشار فيها إلى سؤال أحد طلابه له عن سبب ورود كلمة "المسلمون" مرفوعة بدلا عن "المسلمين" في جملة: "جاء المسلمون". وأشار إلى المشكلة التي وقع فيها حين لم يستطع إجابة سؤال طالبه الذكي إلا بالإجابة المعهودة: "هكذا قالت العرب". ثم إلى عدم اقتناع الطالب بإجابة أستاذه ومبادرته بسؤال أكثر إحراجا وهو: "إذا كانت اللغة سماعية فلماذا لا نكتب اللغة التي نسمعها في البيت والشارع، لأننا لم نسمع اللغة التي نتعلمها؟"
لذلك فزع الأستاذ سعيد، بطريقة ربما يريد بها الإيحاء بأن المفاهيم التي ألفناها عن اللغة ربما لا تكون صحيحة، إلى المتخصصين في "اللسانيات" لينجدوه بإجابة تصلح لإقناع مثل هذا الطالب الذكي الذي نحسده على وجوده بين طلابه. وكنت واحدا من الذين استنجد بهم الأستاذ سعيد.
وتثار مثل هذه الأسئلة دائما ولا يجاب عنها بإجابات مقنعة. وسأحاول هنا الإسهام بقدر ما أستطيع في جلاء بعض المشكلات التي تتصل بها.
ومن المؤكد أن الإجابات التقليدية لا تنفع لأنها مبنية على تصورات خاطئة عن اللغة بعامة وعما يسمى بـ "اللغة النموذجية"، وما يسمى بـ"اللغة العربية الفصحى" خاصة، وعن النحو وعن دراسة اللغة على وجه العموم.
أما الإجابة الأقرب إلى حقيقة الأشياء فهي تلك التي تستند إلى المنجزات العلمية التي حدثت في العقود الخمسة الماضية في دراسة اللغة.
فمن التصورات الخاطئة عن اللغة ما يشي به سؤال الطالب من أن هذه القواعد النحوية الصعبة مقصورة على اللغة العربية الفصحى. ويتبع من هذا أن اللغة العامية التي نتكلمها تخلو من القواعد وأنها تصدر عن سليقة لا نُعمل فيها أيةَ قاعدة وأن بإمكاننا أن نطمئن إلى معرفتنا بها.
أما الواقع فهو أن ما نسميه بـ"اللغة العامية" محكوم بـ"قواعد" لا تقل انضباطا واطرادا عن تلك التي نجدها في اللغة الفصحى. أما لماذا لا نشعر بأننا نستخدم تلك "القواعد" فهو أننا اكتسبنا "اللغة العامية" اكتسابا طبيعيا منذ الصغر مما جعل تلك "القواعد" تعمل بصورة آلية سريعة لا نشعر بها.
ومن هنا فلا مجال للقول بأننا لو كتبنا لغاتنا العاميات فإننا سنكون أفضل حالا؛ ذلك أننا سنسحب، حينئذ، تلك القواعد من مستوى اللاشعور وهو ما يجعلها آلية إلى مستوى الشعور وهو ما سيجعلها مادة للتعلم الواعي الذي سيلجئنا إلى تذكُّر تلك القواعد كلما أردنا أن نتكلم. وهذا ما سيرجعنا إلى المربَّع الأول: إذ إننا سنعاني من المشكلات نفسها التي كنا نعاني منها في مستوى ما يسمى بـ"اللغة العربية الفصحى".
ومن القضايا المهمة التي وَضحت في التنظير اللساني المتأثر بنظرية تشومسكي اللغوية أن ما نسميه بـ"اللغة العربية الفصحى"، مثله مثل "اللغات النموذجية" الأخرى لا حقيقة له. وأورد هنا ما يقوله تشومسكي عن هذا الأمر:
صحيح أنه كثيرا ما تُستخدم مصطلحاتٌ "مثل مصطلح "اللغة الإنجليزية" أو "اللغة اليابانية" في الدراسات العامة للغة، لكنَّ هذا (الاستخدام) مصحوب بفهْمٍ مؤداه أن هذا الاستخدام البديهي لها... ينبغي أن يُستغنى عنه حين نتوجه إلى الدراسة الفعلية للغة، والسلوك والتواصل.... ذلك أنَّ (هذا التصور البديهي للغة) يتضمن عناصرَ اجتماعية ـ سياسية، وتاريخية، وثقافية، ومعيارية ـ غائيَّة معقدة وغامضة. وربما تكون هذه العناصر مهمة لعلم اجتماعِ الانتماء identification داخلَ مختلف الجماعات الاجتماعية والسياسية ولدراسة بِنية السلطة، لكن الواضح أنها تَقع بعيدًا خارج متناول أي بحث مفيد عن طبيعة اللغة أو علم نفس مستعمليها.
و"يأخذ أغلبُ النقاش عن "اتِّباع القاعدة" قواعدَ الرياضيات أو قواعد المرور نموذجًا، أو تلك القواعد التي نجدها في كتب النحو التقليدي، أو أنواع أخرى مما يتصف بالمعيارية. وأحد الملامح الرئيسة في اتِّباع القاعدة، إذن، أنه يجب أن يكون الوقوع في الخطأ ممكنًا بمعنى الخروج على المعيار. وبغض النظر عن هدف هذا النقاش، فهو غير دقيق هنا. وقواعد اللغة ـ كمبادئ النحو الكُلِّي، أو تلك المبادئ التي تُوجِّه أحكامَ (المتكلم العادي)، مثلاً ـ ليست معيارية بهذا المعنى. إذ يمكن أن تَكون (هذه الأحكامُ) ومظاهرُ (السلوك اللغوي) الأخرى "خاطئة"، لعدد كبير من الأسباب؛ نحو: عدم الانتباه أو صعوبة التحليل.... كما (يستطيع المتكلم للغته) أن يقرِّر مخالفةَ قواعدِها، ربما لأسباب وجيهة، كإحداث أثرٍ أدبي، مثلا. ويمكن للأحكام والسلوك كذلك ألا تتوافق مع المعيار بطرق عدَّة: كالمعايير التي تَفرضها البنى التسلُّطيةُ المختلفة، والممارسات المشتركة عند جماعات لا حد لتنوعها ويمكن أن يرتبط الأفراد بها، إما اختيارًا أو بضغط خارجي،...إلخ".
ويقول تشومسكي أيضا: "وتمثِّل هذه الأفكار (أي أفكاره عن طبيعة اللغة) مفارقةً جذريًّة لتقليدٍ غنيٍّ استمر ألفين وخمسمائة سنة. فلا تُبيِّن هذه الأفكار، إنْ كانت صحيحة، أن اللغات متماثلةٌ، بإجراء حوسبي يكاد يكون واحدًا وتنوعٍ ضئيل مقصور على المعجم وحسب، بل تُبين كذلك عدمَ وجود قواعد أو تراكيب شبيهة بالقواعد والتراكيب بالمعنى التقليدي، التي نُقلت إلى النحو التوليدي المبكر: فليس هناك قواعد لتكوين جُملِ الصلة في اللغة الإنجليزية مثلا. فليست التراكيبُ التقليدية ـ كالمركَّب الفعلي، وجملة الصلة، والمبني للمجهول،...إلخ ـ إلا وسائلَ تصنيفية مصطنعة، أما خصائصُها فتَنتُج من تفاعل مبادئ أكثرَ عمومية.
و"مهما كان موضوع (البحث المعهود في دراسة اللغة) فهو يعتمد بصورة جوهريَّة على فكرة "اللغة العامة المشتركة" التي ظلت غامضة. فإذا كانت هذه الفكرة بصورتها في الخطاب العادي فهي غير مفيدة لأيّ شكل من أشكال التفسير التنظيري. فمن المسلمات منذ زمن بعيد في الدراسة الاختبارية للغة أنه ليس هناك شيء يمكن أن تعيِّنه كلمات كـ (اللغة) "الصينية"، أو "الألمانية"، أو ما هو أكثر تحديدًا منهما كذلك. ذلك أنَّ تحدُّثَ اللغة نفسِها يُشبه "السَّكنَ قريبًا مِنْ" أو "التشابه"؛ وهو ما يعني أنه ليس هناك مقولات يجب تثبيتها. وعدمُ توفير اللغةِ العادية وسيلةً للإحالة إلى اللغة التي تتكلمها حفيدتي مقبولٌ في الحياة العادية، أما البحث الاختباري فيتطلب تصورًا مختلفا. فملكتُها اللغوية، في البحث الاختباري، في حالةٍ ما وهي الحالة التي تُحدِّد "لغتَها" (أو ربما تَكون "هي" لغتها). وتؤسَّس الجماعاتُ والثقافات وأنماط الاحتكام في حياة البشر بطرق مختلفة كثيرة جدّا، مع عدم وجود علاقة خاصة لشيء من ذلك بما نسميه "لغات" في الخطاب غير المتخصص. وليس هناك إجابة مفيدة عن السؤال عن إن كان يجب على "بيرت" أن يحيل إلى الألم في فخذه على أنه التهاب مفاصل؛ أو إن كان يجب عليه استخدام كلمة disinterested "غير مبال" لتعني unbiased "غير متحيِّز"، كما يقول القاموس، أو uninterested "غير مهتمَّ"، كما يعتقد متكلمو [الإنجليزية الأمريكية] جميعهم تقريبًا؛ أو إن كان يجب عليه أن يَنطق الكلمات بالطريقة التي تُنطق بها في بوسطن أو لندن".
ويقول كذلك: "وهذه اللغات (بمعناها في الاستخدام العام) "مصطنعاتٌ ثقافية" غالبًا بمعنى أكثر تحديدا: فهي "لغات نموذجية" مصطنعة جزئيًّا وربما لا يَتحدثها إلا عدد قليل من المتكلمين ويمكن أن تُخالِف مبادئ اللغة كذلك. وتُحدَّد مصطلحاتٌ كـ "المعايير" و"الاستخدام الصحيح" في ثقافات عديدة، في ضوء مثل هذه الظواهر، وهي أمور ليس لها كثير من الأهمية في "الدراسات الثقافية"، وإن لم يكن لذلك من سبب إلا أنها واضحة جدّا. وهو ما يجعلها لا تهتم بدراسة جهود المجمع اللغوي الفرنسي إلا قليلاً، مثلا".
ومقتضى هذه الأفكار العلمية التي وردت بصورتها الأخيرة في كتاب تشومسكي ("آفاق جديدة في دراسة اللغة والذهن"، ترجمة حمزة المزيني، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2**5) أن علينا أن نقارب أسئلة اللغة بغير الطرق المعهودة التي ألفناها.
لهذا أتوجه للأستاذ سعيد الدوسري طالبا العذر منه إن كنت لا أستطيع في مقالات بحجم ما تسمح به الصحيفة اليومية تناول مثل هذه القضايا المعقدة. لكن هذا يملي علينا، كما قدمت، أن نراجع مراجعة جذرية تلك الأفكار التقليدية التي تتصل باللغة عموما وباللغة العربية الفصحى خصوصا وأن نقاربها مقاربة علمية بعيدة عن المعالجات السطحية التي تزخر بها الدراسات اللغوية والنحوية المألوفة.
إن مشكلتنا تكمن في هيمنة التوجهات التقليدية في دراسة اللغة وعدم الاهتمام في جامعاتنا بالدراسات اللسانية العلمية التي وصلت الآن حدا بعيدا من النضج. كما أنها غائبة، بل ربما تقابل بعداء مبدئي لا مثيل له، في أقسام اللغة العربية على وجه أخص.
هنيئا لك ـ أخي سعيد ـ بطالبك النجيب، وأرجو ألا يقع فريسة لنحوي تقليدي يئد هذا العقل المتسائل الذي نحتاج أن يكون طلابنا جميعا على مثاله.